للخيال العلمي دور في صياغة ماضينا وحاضرنا لا يستطيع أحد أن يتجاوزه، بالإضافة إلى كونه محدداً رئيسياً لمستقبلنا وملهماً لكثير من الابتكارات التي ربما لن ندركها نحن ولكن سيعيشها أبناؤنا. وفي العصر الحالي توشك الحدود الفاصلة بين العلم والخيال أن تتلاشى بعد أن تحقق الكثير من نبوءات الخيال العلمي وتحولت إلى واقع ملموس مع عقل ما زال قادراً على الإبداع.
من هنا كان طرح تصور مبدئي منذ سنوات، عن مدن تستمد طاقتها بالكامل من مصادر متجددة، يثير دعابات الكثيرين ممن لم يروا بديلاً عن المصادر التقليدية. وها نحن نشهد ما كان حلماً يصبح حقيقة، بل يتخطى حاجز المدينة إلى الدولة. فقد تصدرت كل من باراغواي وآيسلندا قائمة البلدان المنتجة للكهرباء من المصادر المتجددة بنسبة 100 في المئة، وتوشك النروج والبرازيل على اللحاق بهما بعدما اقتربت الكهرباء المولدة من المصادر المتجددة من 96 في المئة في الأولى و88 في المئة في الثانية. وعلى مستوى الأهداف، أعلنت دولتا تونغا وفيجي الواقعتان في المحيط الهادئ الاعتماد الكامل على الطاقة المتجددة في نهاية 2013، فى حين تستهدف أورغواي زيادة المشاركة من 50 في المئة حالياً إلى 100 في المئة سنة 2015. وتعمل الدنمارك على الوصول إلى الهدف ذاته بحلول منتصف العقد الحالي ارتفاعاً من 33 في المئة حالياً يأتي معظمها من طاقة الرياح. وفي اليابان، التي اكتوت بزلزال وتسونامي أديا في آذار (مارس) 2011 إلى كارثة نووية ما زالت صورها في الأذهان، اعتمدت مقاطعة ناغانو برنامج عمل للاعتماد على الطاقة المتجددة وحدها، وقامت بلديتا طوكيو وأوساكا بتعديل خططهما المستقبلية لتصبحا أكثر توجهاً نحو الطاقة النظيفة. وذلك بحسب ما ورد في تقرير شبكة سياسات الطاقة المتجددة للقرن الحادي والعشرين "REN 21".
وعلى مستوى قطاعات الاستهلاك، بلغت نسبة تغذية المرافق العامة بالطاقة المتجددة في مدينة أوستن بولاية تكساس الأميركية 100 في المئة منذ العام الماضي، كما شرعت مدينة إيثاكا في ولاية نيويورك التحول صوب الطاقة المتجددة في ظل اعتزامها تدبير كامل احتياجات المستهلكين من مصادر متجددة، مما حدا بمدينتي سان فرنسيسكو وبالو ألتو في ولاية كاليفورنيا على السير في الاتجاه ذاته. وأعلنت اسكوتلندا عن خريطة طريق لإنتاج كامل احتياجاتها من الكهرباء من مصادر متجددة بحلول سنة 2020. وينفذ قطاع السكك الحديد الألماني خطة للوصول بنسبة الطاقة الكهربائية النظيفة المستخدمة في القطارات الكهربائية إلى 28 في المئة سنة 2014.
تعد هذه الإحصاءات جانباً من المشهد العالمي الهادف للاعتماد الكامل على الطاقة المتجددة، تدعمها شبكات ربط كهربائية مع الدول المجاورة تتيح لها معادلة ميزان الطاقة الخاص بها عند انخفاض الطاقة المولدة لأسباب طبيعية، خصوصاً انخفاض سرعة الرياح وغياب الإشعاع الشمسي. وبالتالي، فإن العمل على ربط الدول كهربائياً بعضها ببعض يعزز من نشر التطبيقات المتجددة ورفع مستوى الاعتماد عليها.
يدعم هذا الاتجاه أيضاً التوسع في استخدام الشبكات الذكية للمواءمة بين أفضل البدائل للحصول على الطاقة آنياً. يضاف إلى ذلك تصميم مدن تتسم ببساطة العمران والتخطيط المبني على الاستفادة الكاملة من الموارد الطبيعية المتاحة، بما فيها ساعات سطوع الشمس نهاراً، والتحرر من البنايات الشاهقة التي تبدو كأفيال عملاقة تحتاج إلى قدر هائل من الطاقة. وبالتالي استبدال محطات توليد الكهرباء الكبرى بأخرى "ميكروية" تغذي كل منها حملاً معيناً وترتبط بغيرها عبر شبكة كهربائية تشبه عناقيد العنب، تتعدد "حبّاتها" وتتنوع من ألواح كهروضوئية إلى توربينات الرياح إلى خلايا الهيدروجين إلى طاقة باطن الأرض.
من جانب آخر، ستساعد العدادات الذكية المستخدمين على الاستفادة من العروض التي تقدمها شركات توليد الكهرباء. فالغسالات يمكنها العمل في الوقت الذي تكون فيه كلفة الكهرباء أقل ما يمكن، وستتفهم العدادات ذلك جيداً. وستقدم شركات الكهرباء نصائحها بشكل جذاب للمستخدمين كي لا يشعروا أنهم مجبرون على سلوك يفرض عليهم قيوداً والتزامات، فتتفاعل ذاتياً مع حملات ترشيد الطاقة. أيضاً ستصبح نظم الإضاءة أكثر ترشيداً وترسل لنا رسائل تنصحنا بالجلوس في الشرفة، للاستمتاع بطقس معتدل نستغني فيه عن ضوء اصطناعي ونظم تهوئة وتكييف تستهلك طاقة يمكن توفيرها. وستمتد شبكات غاز الميثان على الجدران الخارجية للمباني ناقلة نواتج تخمر المخلفات وبواقي الطعام التي يلقيها السكان في المخمرات لتعود عليهم بالنفع.
إن الإقامة في مدن تعتمد على الطاقة المتجددة تتطلب نظماً ذكية لإدارة الطاقة توائم بين عادات السكان اليومية وإجراءات ترشيد الطاقة، لتعمل أجهزة التحكم والذكاء الإصطناعي وفق منظومة متكاملة تربط بين تشريعات إدارة الطاقة التي تضعها الدولة أو المدينة ورغبات المستهلكين وطبيعة الأجهزة التي يستخدمونها. هذا إلى جانب المواءمة مع المتطلبات البيئية، ليصبح حلمنا بالتحول الكامل نحو الطاقة المتجددة يقيناً نعيشه ويعايشنا. ولدينا النماذج الدولية الناجحة التي تؤكد أن ما كان خاطراً فاحتمالاً صار حقيقة، ليزيد لدينا اليقين أن التقارير التي ستصدر في نهاية هذه السنة سوف تشهد المزيد من الدول في قائمة المئة في المئة طاقة متجددة.
الدكتور محمد مصطفى الخياط مدير إدارة الشؤون الفنية في هيئة الطاقة الجديدة والمتجددة في مصر.
|