إن صفة "ضيــف"، المستخدمة في العنوان، تلطِّـف ما يجب أن يوصـف به ضيفنا الذي نتحـدث عنه. وقد يجـد فيها البعض قدراً من التهكُّـم على مثـل هـذا الضيـف الذي، وإن كان يعيش في البحر، إلاَّ أننــا لا نعدم أن نجد أمثاله بين من يعيشــون على اليابســـة.
ضيفنا هو سمكة تسمى "مرينا"، وهي لحسن الحظ ليست ضيفنا نحن البشر، بل ضيف لأنواع من الأسماك الاقتصادية المهمة مثل السلمون. وهي تعيش طورين متميزين: الأول كيرقة، والثاني كحيوان مكتمل. وتأتي المرينا البالغة من البحر، في آخر الربيع ومع مقدم الصيف، فتدخل البحيرات حيث تبيض. وتستغرق رحلة وضع البيض 12 أسبوعاً. وهي تستحب مساحات من القاع لا تشتد فيها التيارات المائية، حرصاً منها على سلامة أعشاشها التي تبنيها لتضع فيها بيضهـا. وللغرض ذاته تفضل القاع الغني بالحصى والحجارة الصغيرة اللازمة لبناء الأعشاش. وتستخدم هذه الأسماك الثعبانية أفواههـا ذات الممصــات في نقـل الحجـارة، لتبني بها أعشاشــها ذات الشكل الهلالــي.
ويمكن للأنثـى الواحدة أن تضـع عدداً من البيض يصـل إلى مئـة ألف بيضـة. وهي تبيض مـرَّة واحدة خـلال حياتهـا، ولو كان الحال غير ذلك لامتلأت البحار بأسماك المرينا، ولتغيرت صورة الحياة فيها. وتموت السمكة الأنثى حال انتهاء موسم وضع البيض.
يفقس البيض بعد عشرة أيام على تلقيحه، وتخرج اليرقات من الأعشاش، هائمة في الماء، تجرفها التيارات في كل اتجاه. فيهلك بعضهـا، وينجح البعض في تثبيت نفسه على قاع رملي أو طيني، حيث تقوم اليرقة بحفر خندق تكمن فيه. ولا تكون اليرقة ضارة في هذه الفترة من تاريخ حياتهـا، إذ يكفيها ما تلتقطه في خندقها من الكائنات المجهرية العالقة بالمـاء. ويطول عمر الطور اليرقي إلى أربع سنوات، ثم تبدأ السمكة في التحول إلى الطور البالغ المتطفـل، فتترك بيوت الطين، وتغادر المياه الضحلة إلى العميقة، وتبدأ في مطاردة ومهاجمة ضحاياها من أسماك السلمون وغيرها التي تعيش في تلك المياه.
وما إن تقترب المرينا من ضحيتها حتى تتشبّث بها بواسطة ممصــات الفم القوية، وتصــنع بأسنانها الحادة فتحة في جســمها يتيسر لها من خلالهـا أن تســطو على دم وعصــارة السمكة المسكينة التي لا تستطيع المقاومة. وينتهي الأمر بأن تذبل الضحية، ولا تلبث أن تموت، فتغادرها السمكة الطفيلية إلى غيرها. ولا تكفّ المرينا عن هذا السلوك، فهكذا قُـدِّر لهـا أن تحصــل على قوت يومهـا. غير أن الأمر لا يطول كثيراً، فمن لطف الله أن عمر هذا الطور الطفيلي لا يتجاوز السنة ونصف السنة. وقرب نهاية الحيـــاة، تتضـخم الغدد التناسلية للمرينـــا، وتتقلص القناة الهضمية وتنكمش، ولا تلبث السمكة أن تفقد شهيتها تماماً. ويمتد هذا القصــور والتراجع في مظاهر الحيـــاة إلى العضــلات والجلد، فتفقد المرينا حيويتهـا، وتبدأ الفطريـات بمهاجمتها واضعة النهاية لحياتها وسلوكها المهلك.
|