غالبتني ظروف الحياة، فغادرت البلاد وتركت العباد أبحث عن قوت العيال وأم العيال. وبعد أعوام رزقني الله فيها الأموال وتغيرت بها الأحوال إلى أحسن حال، عدت من حيث خرجت أفتش عن الأصحاب والأحباب أحدثهم ويحدثونني وأؤنسهم ويؤنسونني.
استقر بي المقام في مجلس "أبو يوسف". وبعد الترحيب والتأهيل واللوم والعتب على طول الفراق من دون أي مرسال، أخذت موضعي في صدر المجلس إلى جانب صديقي. فبادرته مستفسراً عن الأصحاب، من حضر منهم ومن غاب، حتى وصل حديثنا إلى أبي فارس، وهو صديق عزيز ضامر الجسم رشيق الحركة لا عن حمية غذائية يتبعها بل بسبب عسر الحال وضيق ذات اليد.
أطرق أبو يوسف وهو يخبرني: "رحمك الله يا بو فارس. خسرناك شاباً وأنت زين الشباب!"
فاجأني خبر وفاة أبي فارس، مع أن الموت حق على الجميع. وبعد الترحم عليه والدعوة بطول العمر للجميع سألت كيف نالت المنية من فقيدنا، فأجاب أبو يوسف: "بعد أن سافرت ببضعة أشهر انتشرت قصة جنون البقر، فهوت أسعار لحومها إلى أقل من النصف. ثم ان المطر انحبس والعود يبس وانعدمت المراعي، فكانت القاضية لتجار اللحوم. اللحم كثير ولا من مشتر، إلا بو فارس. في ذاك العام أكل بو فارس وحده أكثر من ثلاثة عجول!"
استغربت الخبر فقلت: "صحتين على قلبه بو فارس. عاش عاقلاً ومات بجنون البقر".
ضحك أبو يوسف حتى دمعت عيناه، مع أن المقام لا يحتمل الضحك، وقال: "سامحك الله. تظن أن جنون البقر قتل بو فارس الذي كان يجنن البلد؟ بعد سنوات قليلة انتشر خبر إنفلونزا الطيور، فما كان من الناس إلا أن امتنعوا عن أكل الطيور، ومن كانت لديه دجاجة أو حمامة تخلّص منها بلا شفقة. وهكذا هوت أسعار الطيور بشكل مرعب ولم تجد من يشتريها، إلا بو فارس. في ذاك العام أكل وحده أكثر من خمسمئة دجاجة".
هتفت مدهوشاً: "ما شاء الله! صحتين على قلبه بو فارس. عاش يحب الطيور ومات بإنفلونزا الطيور".
ضحك أبو يوسف، وتابع: "بو فارس لم تقتله الشدّة فكيف تقتله دجاجة؟ قبل سنتين راجت أخبار عن فيروس كورونا، وقيل إن هذا المرض ينتشر عن طريق الجمال. وكما هوت أسعار العجول والطيور من قبل، هوت أسعار الجمال أيضاً. لم يفوّت بو فارس الفرصة، فتذوق لحم الجمل لأول مرة في حياته، وأكثر منه حتى أنه أكل جملاً وحده ذاك العام".
اتسعت عيناي اندهاشاً وقلت: "جمل بحاله؟ صحتين على قلبه بو فارس. لم ير جملاً في حياته، ومع ذلك قصفت الكورونا عمره!"
ابتسم أبو يوسف، وصاح: "الكورونا لم تقرب صوب بو فارس. المحروس أكل ثلاثة عجول وخمسمئة دجاجة وجملاً. كثرت الشحوم في دمه وضاقت شرايينه، فسكت القلب ومات".
|