تعرف الطيور متى تفرد جناحيها كي تقطع مسافات بعيدة خلال وقت قياسي. ترى من ارتفاعاتها ما يحدث على الأرض، وتختار مساراتها بحريّة وشجاعة بلا قلق أو خوف. ذلك هو أقرب وصف لحياة الدكتور محمد يحيى، الصحافي العلمي المصري المتميّز والمدير التحريري السابق لمواقع "نيتشر" الإقليمية بالعربية، الذي وافته المنية مؤخراً عن عمر 41 عاماً.
طوال 20 عاماً، هي امتداد مسيرته المهنية، لم يفقد محمد يحيى شغف المغامرة والتعلُّم. بعد سنوات قليلة لتخرجه من كلية الصيدلة في جامعة القاهرة وعمله مع شركات أدوية، قرر أن يصبح كاتباً علمياً ولم يندم أبداً على اختياره. فقد تتلمذ على يد الدكتورة نادية العوضي، وهي من أهم الصحافيات العلميات في مصر وأول رئيسة عربية للاتحاد الدولي للصحافيين العلميين. وقد تشابكت خطوط العمل بينهما، إذ كلاهما يكتبان عن قضايا الصحة والعلوم من مصر، وباللغة الإنكليزية. وكلاهما مؤمنان بأهمية الانفتاح على العالم وتبادل الخبرات وتدريب الصحافيين الشباب وإتاحة بيئة حاضنة لإنتاج موضوعات صحافية مميزة عن البحث العلمي في العالم العربي.
ورغم التحديات الكثيرة، تشكّلت خطوط النجاح وتجمّع عدد كبير من الصحافيين العلميين المؤمنين بدور المهنة ليتم تأسيس الرابطة العربية للصحافيين العلميين. وخلال سنوات قليلة، لمع إسم محمد يحيى، وهو يتنقل بين المؤسسات الصحافية الدولية مثل «سايديف» المعنية بالكتابات الصحافية عن العلوم والتنمية في دول العالم الثالث.
ثم عمل مع «سبرينغر نيتشر»، المؤسسة الدولية الأشهر والمعنية بإصدار الدوريات العلمية الأكاديمية، واستمر معها طوال 14 عاماً، أدار خلالها المكتب الإقليمي لـ «نيتشر» في القاهرة. وأسس مجلات ومواقع صحافية باللغتين العربية والإنكليزية، على رأسها «نيتشر الشرق الأوسط»، ومجلة «نيتشر» الطبعة العربية، وموقع «للعلم»، وهو النسخة العربية من «ساينتفك أميركان». وذلك إلى جانب مساهمته فى إطلاق المواقع الإقليمية لـ «نيتشر» في إيطاليا وأفريقيا.
تلك الجهود المتواصلة لـ محمد يحيى وكل من عاونه فتحت الباب أمام العديد من الشباب الصحافيين لكي يتعلموا أساسيات الكتابة الاحترافية والاستقلالية المهنية. وقد شغل منصب رئيس «الاتحاد الدولي للصحافيين العلميين» في الفترة بين 2017 و2019. كما شارك في أغلب الفعاليات المحلية والدولية لتدريب الإعلاميين أو تحكيم الموضوعات الصحافية. وكثيراً ما تجاورنا في مقاعد المستمعين أو المتحدثين، وتناوبنا الحديث وإدارة الندوات عن الصحافة العلمية وقضاياها المتشعبة. لم يعتذر أبداً عن المشاركة التطوعية في أي فاعلية تتناول الصحافة العلمية. كما لم يفوت فرصة مصادقة أهم المحررين العلميين في كل أرجاء العالم.
ورغم مرضه العضال الذي كان يعاني منه لسنوات، لم ييأس أبداً أو يتوقف عن العمل. ففي آخر منشوراته على «الفيسبوك»، وهو يحتفل بعيد ميلاده الحادي والأربعين، كتب ممتناً لعدد الأيام التي عاشها ليشهد شروق الشمس وغروبها، وباعتزازه بنفسه وجسده المريض الذي مكّنه من العيش لهذا العمر على عكس تقديرات الأطباء.
كان يعرف أن قدرته على التعايش مع المرض سوف تتعثر في وقت ليس ببعيد، وأنه رغم ذلك يعدّ نفسه لاستقبال أيام تالية ليقدم أفضل ما لديه، آملاً أن يتذكره الناس على أنه من النوع الذي لم يستسلم، حتى في أسوأ الأوقات. قبل أسابيع عدة، نشر على صفحته بموقع التواصل المهني «لينكد إن» يخبر أصدقاءه عن توليه رئاسة تحرير مجلة «سي أند أي إن»، التابعة لـ «الجمعية الأميركية للكيمياء»، أقدم وأشهر جمعية علمية في العالم، وعن خوضه تجربة مهنية جديدة في الولايات المتحدة. فتوالت رسائل التهنئة من زملائه في أرجاء العالم، كما استعد عدد من العلماء المصريين في الولايات المتحدة لاستقباله والاحتفاء به. أقلعت الطائرة بـ محمد يحيى من مصر، وقبل أن تصل إلى سان فرانسيسكو فاضت روحه لتحلق بعيداً، فيما توقف الزمن بزوجته علا وإبنيه زينة وزكريا والمئات من أصدقائه وزملائه من أثر الصدمة وألم الفراق.
أشرف أمين، رئيس القسم العلمي في جريدة الأهرام
محمد يحيى
|