تتشابه المدن مع الكائنات الحية في ضرورة توافر مصادر للغذاء. وإذا كان غذاء الكائنات الحية نباتات ولحوماً وغيرها، فغذاء المدن طاقة تستمدها من المصادر الأحفورية كالنفط، والمتجددة كالشمس. لذا تبحث المدن التي تنتشد التطور عما يدعم نظمها البيئية، بمعنى آخر تبحث عن الاستدامة، خاصة المدن الكبيرة، وإن شئنا الدقة "المدن المكتنزة"، فهي الأكثر عرضة للتأثيرات السلبية على البيئة والتنوع البيولوجي.
في هذا الصدد، تعتمد نظم الطاقة الكهربائية حالياً على إنشاء محطات حرارية عملاقة لإنتاج الكهرباء وضخها في شبكة عنكبوتية تمتد كابلاتها وأسلاكها إلى نقاط الاستهلاك المختلفة في المدن والقرى. ومن حيث التخطيط، تعمل هذه النظم من مفهوم مركزي تُمثل فيه محطة الكهرباء نقطة المركز في دائرة تتوزع الأحمال على محيطها، لتتكرر الدوائر وتتشابك بعضها مع بعض بحسب اتساع نقاط الاستهلاك. ويتطلب بناء نظم توليد مركزية استثمارات هائلة، تقع غالبيتها على كاهل الدولة، بدءاً من البنية التحتية مثل مد شبكات النقل والتوزيع وخطوط الوقود والمياه وآليات التخلص من النفايات، وصولاً إلى بناء محطات تتسم بعطش أبدي للوقود.
توارث مخططو الكهرباء هذا النمط المركزي منذ القرن التاسع عشر تأثراً بالثورة الصناعية واكتشاف البترول. وصار الطلب على الكهرباء يستتبع مزيداً من المحطات. فارتفعت معدلات الاستهلاك بلا هوادة، يلهب ظهرها سوط أسعار متدنية، ليقع مخطط الطاقة بين سندان التكاليف الباهظة ومطرقة استهلاك صار إهداراً.
في هذا الصدد، يعاير مستوى استهلاك الطاقة عالمياً بمؤشر "كثافة الطاقة" البالغ عالمياً 0,25، أي أن إنتاج سلع بقيمة ألف دولار يتطلب استهلاك ربع طن مكافئ نفط. ومن ثم، فكلما انخفضت قيمة هذا المؤشر ارتفعت كفاءة استخدام الطاقة. وبالتالي، فان ارتفاع متوسط المؤشر في دول الخليج العربي1 إلى نحو 0,50 يدعو إلى مراجعة استهلاكات الطاقة في القطاعات المختلفة، وكذلك نظم اعتماد الأجهزة الكهربائية.
في خضم هذه الصور، تخطو الطاقة المتجددة خطوات فارقة من حيث قدرات التوليد. فقد كان عام 2013 عاماً فارقاً كسابقه، حيث أضيفت 115 جيغاواط من القدرات المتجددة في جميع أنحاء العالم2، فاقت نصف القدرات المضافة لإنتاج الكهرباء.
من جهة أخرى، تحرز الخلايا الفوتوفولطية نجاحات غير مسبوقة، سواء كمحطات كبيرة أو كنظم متناثرة على سطوح المباني. فبنهاية 2013 ارتفعت قدراتها الى 125 جيغاواط لتشارك بأكثر من 70 في المئة من القدرات المركبة حديثاً لإنتاج الكهرباء في الاتحاد الأوروبي، و50 في المئة على مستوى العالم، تساندها في ذلك آلية تعريفة التغذية (Feed-in Tariff) وآلية "القياس الصافي" (Net Metering)، مما أدى إلى التخفيف تدريجياً من إنتاج المحطات الحرارية العملاقة.
وتشجع كلتا الآليتين المواطنين على التحول إلى منتجين لبعض الوقت بدلاً من كونهم مستهلكين دائمين، لتتلاصق وحدات التوليد مع الأحمال، أي انتقال نظم التوليد إلى محيط دائرة الإمداد عوضاً عن المركز. وإذا كانت الخلايا الفوتوفولطية تتناسب مع المدن والقرى، كما في تجارب ألمانيا وإيطاليا الرائدتين على مستوى العالم بنسبة 33 في المئة للأولى و16 في المئة للثانية، فإن الكتلة الحيوية تناسب القرى، سواء لإنتاج غاز الميثان أو الكهرباء من المخلفات، كما في البرازيل والصين والهند وجنوب أفريقيا.
في لبنان، مثلاً، أتاحت آلية القياس الصافي للمواطنين الاستفادة بنشر ألواح الخلايا الفوتوفولطية على سطوح المنازل والمنشآت الخدمية كالمستشفيات والفنادق والأسواق. ومع تحقيق نتائج إيجابية عام 2013، تضاعفت الميزانية لتصل إلى 330 مليون دولار عام 2014. وهذا يوجه رسالة مباشرة إلى مخططي نظم الطاقة وواضعي سياساتها، أن وجود حوافز جادة وتشريعات واضحة وآليات تمويل جذابة كفيل بجذب المستهلكين ودفع الأسواق نحو رواج حقيقي.
في السياق ذاته، أخذت شركات الاستثمار العقاري في الدول العربية تتجه نحو البناء المستدام، حيث يزاوج المعماري بين بساطة التصميم ومعطيات التطور الحضاري. وذلك من قبيل التوسع الأفقي بدلاً من الرأسي، واتساع فتحات النوافذ للاستفادة بأكبر قدر من ضوء النهار، ودمج نظم إدارة للطاقة تتفاعل مع البيئة المحيطة، ومواد بناء تخفض أداء أجهزة التكييف، ونظم تسخين شمسي للمياه بدلاً من تلك الكهربائية والغازية، والاستفادة من الخلفات، وتثبيت ألواح الخلايا الشمسية على السطوح والواجهات مع ربطها بالشبكة الكهربائية، مما يساعد – عند التكرار – على توليد مقدار هائل من الكهرباء المتجددة.
تشمل تصميمات مدن المستقبل أيضاً نشر شبكات ذكية لنقل الكهرباء في مزج لطيف بين نظم المعلومات وبنية قطاع الطاقة، ما يسمح بتوزيع نظم الطاقة المتجددة بأنواعها كافة عبر عناقيدها، تمتلك فيها أجهزة التحكم القدرة على مخاطبة نظم التوليد المنتشرة في ثنايا الشبكة، وأيضاً الأحمال، بل وترك رسائل تتضمن عروضاً لاستهلاك الكهرباء خارج أوقات الذروة. فيقترب الإنسان أكثر فأكثر من بناء مدن سكنت خيال مفكرين وأدباء وعلماء على مدى عصور عديدة، فنسجوا صورها من خيوط الشمس. ولأن الخيال بلا حدود، والعلم بلا شطآن، ها هو يضاف كل صباح خيط ذهبي جديد الى نسيج مدن تتلاشى فيها محطات الكهرباء، لتتناثر نظم التوليد على محيط دوائر الإمداد بدلاً من المركز.
References
1. جامعة الدول العربية (2013)، "دليل الدول العربية للطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة".
2. IEA (2013), “Renewable Energy 2013 – Market Trends and Projections to 2018”
الدكتور محمد مصطفى الخياط مدير الشؤون التقنية في هيئة الطاقة الجديدة والمتجددة في مصر.