|  
                                      عشت في مجمع سكني لجامعة عربية خليجية عملـتُ فيهــا لبعض الوقت. ومن أول خطوة لي في مسكني، أحسست أنني انتقلت نقلة حادة .   جئت من قلب مدينة أسكن في إحدى مناطقها الشعبية الكثيفة السكان، حيث لا تسكن الحركة ولا تكف الأصوات لحظات، لا في الليل ولا في النهار. وها أنا أفرغ حقائبي في هذه الضاحية المنعزلة، والسكون يلف المكان، وأكاد أشعر بوطأته على أذنيَّ. وقتها، فرحت بأنني، أخيراً، حصلت على ما تمنيته طويلاً من هدوء، وإن كانت فرحتي مشوبة بنوع من القلق، كان مصدره بلا ريب تعودي الطويل على العيش في "سعير" الأصوات المتنافرة.   وبمرور الأيام، بدأت أشتاق لأي صوت يكسر دائرة السكون حولي. وتذكرتُ محاولة قديمة قمتُ بها لتجميع أوصاف للصمت في بعض الروايات العربية، حيث وجدتُ الأدباء ينعتونه بـ: الكئيب، الثقيل الوطأة، قابض الصدر، المهلك، المميت، البليد الحس، الغريب، اليائس، المطلق، المطبق، المشوب بالقلق والتوتر، الموجع، المرعب... ورحتُ أنتظرُ أصواتاً غير مفهومة لعمال آسيويين يمرون بالقرب من مسكني، وأجيد الإنصات إلى زقزقة طيور لم أرها من قبل، وأسعد بشجارات محدودة لأطفال حول زلاجة في فناء مسكن مجاور.   ولم تمض شهور قليلة إلا وكانت الغربة تتملكني، وكان أحد بواعثها تلك "النقلة الصوتية" الكبيرة. فلقد عشت عشرات السنين غارقاً في بحر من الأصوات، تتقاذف أذنيَّ ضوضاء قطار الضواحي الذي تطل على سكته نافذة حجرة نومي، وحركة المرور في الشوارع المحيطة بالمنزل، ومكبرات صوت الباعة الجائلين، و"موسيقى" مصعد البناية، وأصوات أجهزة إلكترونية متعددة الأنواع والأغراض، بل وزعيق الجيران ينفذ إليَّ عبر جدران البيت.   أكدت لي تلك التجربة أن الصوت عنصر مهم جداً، وأحياناً يكون عاملاً فاصلاً، في البيئة البشرية. فحاسة السمع، كما يقول عالم الصوتيات والموسيقي الكندي الشهير موراي شيفر، عاملة أبداً، ولا يمكن إيقافها عند الطلب. كما أن آذاننا مفتوحة على الدوام، فلعيوننا جفونٌ تغطيها، وليس لآذاننا أغطية. وعندما نخلد للنوم يكون السمع هو آخر الحواس التي تنطفئ أنوارها، وهو أيضاً أول ما نستقبل به العالم عندما نستيقظ. إن كل المجتمعات ســواءٌ في احتوائها على صنفين من الناس: المفتوحي الآذان، وذوي الآذان المغلقة. والآذان هنا – لا يخفى عليك – ليست فقط تلك التي تُفتح للأصوات أو تغلق أمامها، ولكنها أيضاً تلك التي تفتح أو تغلق للتغيير، وللطاعة، وللنقد والمراجعة، وللأفكار الجديدة...   وإنني لأتمنى أن يكون ثمة مؤرخ قد اهتم بأن يستمع جيداً إلى التاريخ، بمعنى أن يصنف لنا من مروا بتاريخ البشرية إلى فئتين: مستمعين جيدين، ومستمعين فاشلين. فقد تكون تلك وسيلة جديدة لتأويل أحداث التاريخ، والنظر إليها كنتائج لسلامة السمع عند بعض القادة التاريخيين، أو للصمم عند البعض الآخر.   ولعلنا لا نكون متجاوزين كثيراً عندما ننظر إلى بعض أحوالنا ونرى أن نفراً من القائمين على شؤون الناس هم من الصـُّــمِّ.   |