|  
                                      زارني صديق في المختبر حيث أعمل في المعهد القومي لعلوم البحار والمصايد في الإسكندرية. وانتابه الفضول، فقام بجولة في المختبر. وتوقَّف أمام صفوف من القوارير الصغيرة، المحتوية على عينات ونماذج من الديدان الدقيقة مغمورة في محاليل تحفظها.   وكان أول سؤال وجهه إليَّ بالطبع عن هذه "الأشياء" داخل القوارير. قلت له إنها عينات من الديدان البحرية العديدة الأشواك، جمعناها من مختلف البيئات البحرية، في البحر المتوسط والبحر الأحمر، لنجري عليها دراسات بيئية وبيولوجية.   قال وعليه دلائل الاشمئزاز: "ديدان؟ وهل أُغلق البحر أمامكم فلم تجدوا فيه غير هذه الديدان؟ وماذا تقولون للناس؟ هل تقولون لهم إن الدولة تنفق عليكم أموال الضرائب التي تحصلها منَّا لتعبثوا بديدان البحر؟ وماذا عن الأسماك، والقشريات، والمحاريات؟ لا عجب إذاً أن نسمع عن ضياع مصايدنا، ما دمتم تولون عظيم اهتمامكم لديدان البحر ذات الأشواك العديدة".   لم يكن الموقف - على رغم حدته – جديداً عليَّ، فقد واجهته أكثر من مرَّة. إن صديقي محق، فمن الصعب على غير المتخصصين أن يدركوا قيمة الأعمال البعيدة عن مجالات اهتمامهم.   الديدان البحرية العديدة الأشواك، التي تأفف منها صديقي، تمثل حلقة مهمة في السلسلة الغذائية في البيئة البحرية، إذ تكوِّن نسبة كبيرة من الحيوانات اللافقارية القاعية، التي تمثل مصدراً مهماً للمواد العضوية بعد موتها وتحللها. كما أنها – وهي حية – ضرورية كغذاء للعديد من أنواع الأسماك القاعية والعائمة. وهي موجودة في جميع الأنظمة البيئية البحرية، وعلى السطوح المغمورة ونصف المغمورة.   هل نقترب أكثر من هذه الديدان؟ إننا لا نحتاج إلى مجهر قوي، مجرد عدسة مكبرة تقربنا منها، وتظهر لنا خطوطها وتشكيلاتها. وتأكدوا، إن أتيح لكم أن تتفحصوها، فسوف تجدون أنها لا تخلو من جمال!   ولهذه الديدان القدرة على إنتاج الضوء، الذي يساعد الأفراد من النوع ذاته على التعارف والتقارب. وفي بعض الأنواع، يستخدم هذا الضوء في التمويه على الأعداء وخداعهم، أو يساعد في اصطياد الكائنات الحية الدقيقة التي يجتذبها الضوء فتلتقمها الدودة.   وتشارك الديدان البحرية العديدة الأشواك بدور كبير في تكوين إحدى الظواهر البيولوجية الخطيرة في البحر، وهي ظاهرة الحشف البحري Marine Fouling المتمثَّلة في التجمعات النباتية والحيوانية النامية بكثافة كبيرة فوق سطح أي جسم مغمور أو شبه مغمور في مياه البحر، ويتضرر منها المشتغلون بالأعمال البحرية. إن هذه التجمعات من الكائنات الحية المختلفة تنمو على قيعان المراكب، وعلى الأشياء المثبتة أو العائمة، مثل أعمدة الجسور وكابلات الاتصالات، وفق أصول محددة وفي تتابع ثابت ينتهي بأن ينشأ تزاحم شديد. فهنا سوق، ومطاعم، ومخابئ، وملاعب، وفخاخ منصوبة، وحياة تبزغ، وموت يعصف... عالم عجيب!   فهل تستحق الديدان العديدة الأشواك اعتراض صديقي؟           |