تتجسد العدالة البيئية في اتخاذ إجراءات قانونية للحيلولة دون نشوء بؤر للتلوث البيئي في المناطق التي تسكنها الطبقات الفقيرة أو المسحوقة، بحيث تكون المؤسسة البيئية مسؤولة عن ضمان أمرين:
أولاً، مكافحة نشوء بؤر التلوث من خلال الحيلولة دون تركز النشاطات الملوِّثة في مناطق سكن الطبقات المسحوقة أو المجموعات التي تنتمي إلى اصول عرقية معينة. وإلا فكأن المجتمع، ممثلاً بالمؤسسة البيئية، يعاقب مجموعة من ابنائه على فقرهم أو انتمائهم العرقي.
ثانياً، اعتماد مفهوم الأثر المضاعف للتلوث أساساً قانونياً وبيئياً لعملية قياس الأثر البيئي للمشاريع المزمع اقامتها في هذه المناطق. فعندما تعمد المؤسسة البيئية الى منح شهادة تقييم الأثر البيئي لمشروع معين، لا يجوز، استناداً لمفهوم العدالة البيئية، قياس الأثر البيئي لهذا المشروع منفرداً، بمعنى النظر الى حجم ما يلقيه المشروع وحده من عوادم وانبعاثات، بل يجب النظر الى الأثر المضاعف للتلوث الحاصل من خلال زيادة حجم العوادم والغازات التي تلقى في بيئة هذه الشرائح. فاذا كانت هذه البيئة تشكو في الأصل من ارتفاع نسبة التلوث فيها، فسوف يضاعف أثر الملوثات ويصبح أخطر على صحة سكانها، مما ينجم عنه انحدار كبير في نوعية الهواء مثلاً أو نوعية المصدر المائي الذي تعتمد المنطقة كلياً عليه.
تبدو فلسفة العدالة البيئية منطقية، بل بديهية، فهي تقوم على حق أفراد المجتمع على اختلاف أعراقه أو أجناسه أو دخله بالتمتع ببيئة نظيفة وصحية. والحقيقة أن هذا المفهوم ساهم الى حد كبير في اعتبار الحق في بيئة نظيفة "الجيل الثالث لحقوق الانسان"، بعد الحقوق المدنية والسياسية باعتبارها الجيل الأول، والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية باعتبارها الجيل الثاني.
نشأة مفهوم حديث
نشأ مفهوم العدالة البيئية بشكلها الحديث في الولايات المتحدة مطلع الثمانيات. فقد بدأت الجمعيات البيئية تلاحظ أن المصافي والمعامل وغيرها من المنشآت التي ينجم عنها إلقاء عوادم خطرة على صحة الانسان، يتم بناؤها في المناطق الفقيرة والتي تسكنها غالبية ساحقة من الافارقة الأميركيين (السود) بشكل ازدادت معه الاصابات بالتدرن الرئوي والربو وغيرهما من الأمراض بين أفراد هذه الشريحة. وتكرر ذلك في المناطق التي يقطنها مهاجرون ذوو أصول من أميركا اللاتينية.
تجدر الاشارة الى أن بناء هذه المعامل كان يتم بشكل "أصولي"، بمعنى أن المعمل المزمع تشييده ينجح في اجتياز اختبار تقييم الأثر البيئي. ذلك لأن قياس الأثر البيئي كان يتم باعتماد مبدأ الأثر الفردي للمشروع، بحيث تنظر وكالة حماية البيئة الى مقدار العوادم التي يلقيها هذا المشروع منفرداً في بيئة هذه المناطق، من دون ملاحظة الأثر المضاعف للتلوث، مما دفع الجمعيات البيئية الى تحدي اجازة المشاريع أمام القضاء. الا ان القليل من هذه القضايا حالفه النجاح، والسبب قصور التشريع البيئي الاميركي عن معالجة هذه الحالة. فطبقاً للقوانين البيئية المعتمدة، أجيزت هذه المشاريع وحصلت على شهادة تقييم الأثر البيئي التي تتضمن أن إنشاءها لا يؤثر سلباً على البيئة، لأن ما تلقيه من عوادم هو ضمن النطاق المسموح به. وهذا دفع ادارة الرئيس كلينتون عام 1994 الى اصدار مرسوم يخول وكالة حماية البيئة اتخاذ الاجراءات القانونية لضمان معاملة عادلة ومنصفة لجميع أفراد المجتمع من دون تمييز بسبب عرق أو لون أو جنس، للتمتع ببيئة صحية ونظيفة.
مواطنون من الدرجة الثانية
تعود جذور تحديات العدالة البيئية الأميركية الى نشأة الولايات المتحدة ذاتها. فقد جرى استيراد السود كـ"عبيد" من القارة الافريقية، ليكون شكل المجتمع طبقياً وتتجذر فكرة التمييز بين طبقاته. قانوناً، لم يكن يسمح للعبيد بالعيش في المناطق التي يعيش فيها مخدوموهم. ونظراً لقلة دخلهم، لم يستطيعوا الحصول على الخدمات الصحية والتعليمية، مما جعل المناطق التي يعيشون فيها تفتقد للخدمات الأساسية وشروط ادارة الموارد البيئية فيها بشكل سليم.
لقد تم تطبيق قوانين الفصل العنصري المعروفة باسم "قوانين جيم كرو" في الولايات الجنوبية من عام 1876 حتى عام 1964، وكانت تمنع السود من الوصول الى الموارد الطبيعية وتفرض عليهم العيش في مناطق محددة بعيداً عن المناطق التي يقطنها البيض. وكانت مناطقهم، بحكم هذه القوانين، تخلو من شروط الادارة البيئية السليمة، مما أدى الى تحولها بؤر تلوث لاحقاً، ليدفع المجتمع ككل الثمن في النهاية.
ساهمت هذه القوانين في اضعاف البنية الصحية للافارقة الأميركيين لأنها كانت تحول دون وصولهم الى الخدمات الصحية والبيئية السليمة، مما خلق شعوراً لديهم بعدم أهمية سلامة البيئة. إنهم لم يعرفوها يوماً، فكيف يقدرون أهميتها، فضلاً عن ندرة فرص التعليم المتاحة لهم. لقد كانت هذه القوانين تفرض على السود الشرب من أماكن مخصصة لهم تفتقر الى أبسط المقومات والشروط الصحية، فيما يشرب البيض من مصادر مأمونة ويتوافر لهم حتى الماء البارد صيفاً. بل وصل الأمر الى تخصيص مرافق صحية للبيض وأخرى للسود تفتقر للشروط الصحية المقبولة.
وساد شعور عام لدى المستثمرين بأن السود "معتادون" على العيش في هذه المناطق، وبعبارة أخرى معتادون على التلوث. وهكذا أصبحت مناطقهم بؤراً للتلوث البيئي، نتيجة بناء مشاريع صناعية أكثر مما تستطيع عناصر البيئة في تلك المناطق استيعاب ما تلقي اليها من ملوثات، مما انعكس سلباً على صحة السكان لتظهر بينهم اصابات بأمراض مزمنة. وهذه الآثار لم تترك بصماتها على تلك المناطق فحسب، بل ساهمت في الاضرار بفرص التنمية المستدامة. فاذا لوثت الأجيال الحالية معظم المياه فلن تتبقى مياه صالحة للأجيال القادمة.
يضاف الى العدالة البيئية محور آخر هو التمييز العنصري البيئي (environmental racism)، إذ يسعى المستثمرون متعمدين الى بناء أنشطتهم الملوثة في مناطق السود والاقليات، حيث السكان بنظرهم مواطنون من الدرجة الثانية أو معتادون على التلوث.
مقارنة مع الحضارة العربية الاسلامية
ان جذور المشكلة ترجع الى تأصل فكرة التمييز بين أفراد المجتمع وضرورة ان تعيش كل طبقة أو شريحة عرقية في منطقة معينة، فتنعكس الأحوال المعيشية والثقافية والاقتصادية على ادارة الموارد. وحين صدر مرسوم العدالة البيئية بدأ المجتمع بمعالجة هذه الأزمة.
ولعل هذا الاستنتاج يمثل أساس المقارنة مع الحضارة العربية الاسلامية واحتوائها مفهوم العدالة البيئية. ذلك ان المجتمع في شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الاسلام كان مجتمعاً طبقياً يقوم على التمييز بين السادة والعبيد، الذين كانوا يعاملون معاملة سيئة ويعيشون ظروفاً مزرية. فالعبيد الذين يرعون الغنم يعيشون في أماكن خاصة بهم مما يعني احتمال تحولها الى بؤر تلوث، أما عبيد الخدمة المنزلية فيعيشون مع السادة الا أنهم لا يصلون الى الموارد الطبيعية ولا يتمتعون بها، فلا يأكلون مما يأكل السادة ولا يشربون مما يشرب السادة ويعملون حتى يأذن لهم السادة بالراحة. فاذا أخذنا في الاعتبار قسوة البيئة الصحراوية، فان المجتمع العربي قبل الاسلام كان سيواجه كوارث بيئية ناجمة عن ظهور بؤر التلوث داخله.
أما توجه الحضارة العربية الاسلامية فكان نقيض ذلك تماماً، بحيث ارتكزت على المساواة في الحقوق والواجبات بين السادة والعبيد، مما أتاح الفرصة أمام العبيد للوصول الى الموارد الطبيعية وبالتالي الحيلولة دون نشوء بؤر التلوث في بيئة صحراوية قاسية. وهكذا كان الاسلام ـ وبالتالي الحضارة العربية الاسلامية ـ مستوعباً لبيئته أو إن جاز التعبير "ابن بيئته". ولهذا كان الرسول الكريم يقول عن العبيد: "أنزلوهم حيث نزلتم وأطعموهم مما أكلتم". لقد كان ذلك حجر الزاوية لانقاذ المجتمع العربي من نشوء بؤر للتلوث داخله، حيث كان الوصول الى الموارد الطبيعية متاحاً أمام الجميع. وهكذا تطورت فكرة العدالة البيئية مع الحضارة الاسلامية، ليشهد المجتمع العربي انتشار مفهوم الصحة والبيئة العامة وإتاحتها أمام الجميع، بما في ذلك انتشار المرافق الصحية العامة وقنوات تصريف المياه في المدن العربية. ولولا ذلك لكان مصير المجتمع العربي الى الزوال نتيجة حرمان فئة من المجتمع من الوصول الى الموارد الطبيعية.
وانعكس ذلك في الفتوحات الاسلامية، فلم يعامل المسلمون سكان البلاد الأصلية على أنهم عبيد أو سبايا، بل سعوا الى تعليمهم وتثقيفهم وتسهيل وصولهم الى الموارد الطبيعية، وجعل تلك البلاد حواضر اسلامية لا تقل شأناً عن مركز الخلافة. وبالمقارنة، فان دول نظام الانتداب او الاستعمار في أعقاب الحربين العالميتين الأولى والثانية لم تعمل على ذلك، لانها أصلاً تؤمن بطبقية المجتمع. لقد تركت الحضارة العربية الاسلامية خلفها آلاف المفكرين والمبدعين ممن هم قادرون على ادارة الموارد البيئية ادارة سليمة، في حين أن فرنسا مثلاً عندما غادرت الكونغو لم تترك فيها غير خمسة ممن يحملون شهادة عليا!
كانت الدولة الاسلامية تعنى بالمرافق الخدماتية والعامة، فتقيم المساجد وتلحق بها المكتبات العامة المزودة بأحدث الاصدارات في عصرها. المسجد لم يكن مكاناً للعبادة فقط، بل أصبح مكاناً للعلم والثقافة المجانية وزيادة الوعي لدى المواطنين، بحيث يسهل على الفقراء وذوي الدخل المحدود الوصول الى العلم والوعي اللازم لمعالجة مشاكلهم والارتقاء بحالهم. فالكثير من علماء المسلمين في الطب والفلك وغيرهما كانوا فقراء أو من أعراق غير عربية، ولم يحل ذلك دون وصولهم الى الموارد الطبيعية ومن ثم مراكز صنع القرار. في حين أن غياب الوعي لدى الكثير من الافارقة الاميركيين حال دون وصولهم الى الموارد الطبيعية ودون تقديرهم لحجم المخاطر البيئية، كما حال دون حصولهم على فرص عمل أفضل تمكنهم من تحسين دخلهم وبالتالي امكانية انتقالهم للعيش في مناطق تتمتع بادارة بيئية سليمة.
واهتمت الحضارة الاسلامية بتوفير المرافق الصحية العامة التي كانت متاحة للجميع وبلا تمييز، فضلاً عن مطاعم الفقراء، حيث كانت تتميز بالشروط الصحية والبيئية من حيث الموقع والخدمات. فكان ذوو الدخل المحدود يعاملون معاملة أفضل تتمثل بتسهيل حصولهم على احتياجاتهم الأساسية من ماء وطعام وخدمات صحية. ولم يكن المجتمع يمارس أعمال التمييز ضدهم، بل كان يساعدهم وصولاً الى تحسين وضعهم والاستفادة منهم كموارد بشرية قادرة على إغناء الحضارة العربية الاسلامية. وأقيمت أسبلة للشرب في الشوارع، فكانت المياه الصالحة للشرب متاحة للجميع وبلا تمييز. وكان إنشاء المستشفيات الاسلامية سمة متبعة في كل مكان بالدولة، تقدم فيها الخدمة المجانية من العلاج والدواء والغذاء ومساعدة أسر المرضى المعوزين.
ان عدم تمييز الحضارة الاسلامية بين الأعراق والجنسيات التي انضوت تحت رايتها حال دون خلق بؤر للتلوث تنخرها من الداخل وتضعف بنية أبنائها وتؤدي بالتالي الى نضوب مواردها. كما أنه أهل هذه الحضارة للاستفادة من الموارد البشرية المتاحة لها من مفكرين وعلماء وأدباء.
نحو تطبيق العدالة البيئية عربياً
العدالة البيئية يجب أن تكون أساساً للنهوض بالمناطق التي تقطنها الغالبية الفقيرة والمسحوقة. غني عن البيان أن المجتمع العربي يخلو من نظرة تمييزية تجاه أبنائه، الا أن التحدي الأكبر لكثير من المؤسسات البيئية العربية هو كيفية ايصال الخطاب البيئي ومن ثم النهوض بالبيئة في المناطق التي تقطنها غالبية عظمى ممن يعيشون تحت خط الفقر. فهذه الشريحة تعاني من مشاكل مركبة تتمثل في قلة وعيها بالمخاطر البيئية، فضلاً عن ضعف أو انعدام مواردها المالية التي تمكنها من الارتقاء بوضعها، في حين أن بقية شرائح المجتمع قادرة على مواجهة مشاكلها البيئية بشكل أفضل لكونها تمتلك المعرفة والمقدرة المالية، وان كان ذلك يتفاوت من شخص الى آخر.
الشريحة التي تعيش تحت خط الفقر تبدو في موقف الضعيف تجاه أي مشكلة بيئية، وخاصة مشاكل تغير المناخ. ويقع على عاتق المؤسسة البيئية اعتماد مفهوم العدالة البيئية لتقديم أقصى درجات العناية والدعم لهذه الشريحة، بدءاً من برامج التوعية. فالمعرفة والتثقيف البيئي يحولان دون "توريث" الجهل البيئي الى جيل آخر. فاذا كانت الأسرة لا تعي ضرورة الحفاظ على البيئة، فان هذا السلوك سينتقل غالباً الى الجيل الثاني، لينشئ على المدى الطويل جيلاً غير واع بضرورة وجود مياه صحية مثلاً، وضرورة اتخاذ الاجراءات اللازمة للحفاظ على مصادر المياه.
لا يمكن المباشرة بخطط التنمية بمعزل عن تعاون هذه الشريحة واشراكها في عملية صنع القرار البيئي وصولاً للنهوض ببيئتها. وبخلاف ذلك فان بؤر التلوث ستغزو البيئة العربية.
الدكتورة مشكاة المؤمن، وزيرة البيئة في العراق سابقاً، هي حالياً أستاذة زائرة في مؤسسة القانون البيئي في واشنطن. وهي كتبت هذا الرأي لـ"البيئة والتنمية".