Friday 19 Apr 2024 |
AFED2022
 
AFEDAnnualReports
Environment and development AL-BIA WAL-TANMIA Leading Arabic Environment Magazine
المجلة البيئية العربية الاولى
 
مقالات
 
وحيد محمد مفضّل العامل البرتقالي والجرائم البيئية السوداء  
أذار (مارس) 2007 / عدد 108
 خلال حرب فيتنام ألقت القوات الأميركية كميات هائلة من المبيدات السامة على الحقول والغابات، مما أدى الى تدميرها وتجويع السكان وهلاك كثيرين وولادة نصف مليون طفل مشوَّه. وما زالت تلك السموم، التي عبئت ونقلت بسرّية في براميل ملوَّنة، تفتك بأجساد الفيتناميين حتى اليوم مسببة أمراضاً جلدية وعصبية وسرطانية وتشوهات خلقية
من أقدم جرائم البيئة المعروفة ما ارتكبه الرومان بحق قرطاجة عاصمة المملكة الفينيقية القديمة في شمال افريقيا. فقد تملكت قادة روما رغبة جامحة في الانتقام من الفينيقيين والقضاء على فلول قواتهم، بعد محاولة قائدهم الشهير هنيبعل درء الخطر القادم على بلاده والسبق بالهجوم على روما قبل غزو جيوشها لقرطاجة. وعلى رغم تحقيق الرومان نصراً واضحاً على الفينيقيين وإبادتهم قوات هنيبعل، إلا أن هذا لم يكفهم، فأقدموا على واحدة من أبشع الجرائم البيئية المعروفة، عندما جاؤوا الى قرطاجة حاملين كميات هائلة من الملح نثروها في حقولها ومزارعها المعروفة بنضارتها وخصبها، فامتد انتقامهم الى كل يابس وأخضر على تلك الأرض المعطاءة.
ربما تكون هذه أقدم جريمة بيئية معروفة. لكن جرائم البيئة توالت بعد ذلك بعدة أشكال وأنماط، بحيث يمكن القول أن ما من قتال دار إلا وكانت البيئة الخاسر الأكبر فيه بعد الانسان أو قبله والأمثلة على هذا كثيرة، منها ما اقترفته القوات الغربية ضد المدن والقرى المسلمة بما فيها من حرث ونسل إبان الحروب الصليبية، ومنها جرائم حرق الأرض وقتل النساء والأطفال التي أمر بها هولاكو أثناء اجتياح التتار للأراضي العربية والآسيوية.
بعد ذلك انتقل قربان البيئة من مذبح السيف الى مذبح البارود، من خلال استخدام المدفعية والأسلحة الفتاكة الأخرى التي تتابع ظهورها منذ الحرب العالمية الأولى. فرأينا القوات النازية إبان الحرب العالمية الثانية تدك عدداً من السدود النهرية في هولندا، لتغرق أكثر من 200 ألف هكتار من أجود الأراضي. ورأينا الأمر نفسه يتكرر ابان الحرب الكورية عام 1953، حينما قامت قوات كوريا الشمالية بقصف خمسة سدود نهرية في أراضي كوريا الجنوبية بغرض إغراق حقول الرز وحرمان الشعب من أهم محاصيله الاستراتيجية.
وازدادت معاناة البيئة وجراحها سوءاً مع تطور فنون القتال وظهور مزيد من الأسلحة المدمرة. ولآلة الحرب الأميركية سجل حافل من الامتهانات البيئية غير المسبوقة، بداية من ضرب هيروشيما ونغازاكي اليابانيتين بالقنابل الذرية، ورش الغابات والحقول الفيتنامية بالمبيدات السامة، الى استخدام أسلحة اليورانيوم المستنفد في البلقان وأفغانستان والعراق. ومن جرائم البيئة المشهودة أيضاً إقدام النظام العراقي البائد على تجفيف أهوار العراق وتدمير نظامها الايكولوجي الفريد، وحرق آبار النفط الكويتية أثناء انسحاب القوات العراقية من الكويت عام 1991 وتسريب كميات هائلة من النفط الى الخليج العربي بغرض إعاقة تقدم قوات التحالف ووقف امداداتها البحرية. ولا يمكن إغفال ما اقترفته آلة الحرب الإسرائيلية بحق البيئة اللبنانية وشعب لبنان ابان عدوانها الغاشم الصيف الماضي، حين قصفت عمداً المعابر ومحطات الطاقة والمصانع، واستخدمت أسلحة محرمة دولياً ليس أقلها القنابل العنقودية، وربما حتى ذخائر اليورانيوم المستنفد.
سموم في براميل ملونة
من بين كل جرائم البيئة المذكورة آنفاً، ثمة وضعية خاصة لجريمة رش الغابات الفيتنامية والكمبودية وكل ما فيها من تجمعات بشرية وموائل طبيعية. فتلك كانت أول حرب يستخدم فيها سلاح الإبادة الكيميائي على نطاق واسع، وما زالت آثارها ونتائجها سارية حتى الآن رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على انتهائها.
ففي خضم حرب فيتنام (1961 ـ 1971) وبعد اشتداد هجمات المقاومة الفيتنامية الشيوعية المعروفة باسم ''فييت كونغ'' وتسببها في خسائر كبيرة جداً للقوات الأميركية، لم يجد قادة الجيش الأميركي حلاً للتعامل معها سوى استخدام سلاح الإبادة الكيميائي. وكان الغرض من ذلك تحقيق هدفين أساسيين، الأول حرمان الفييت كونغ والقرى الداعمة لهم من مورد غذائي واقتصادي هام كان يعينهم على مواصلة القتال وشراء الأسلحة اللازمة، والثاني هو ''تعرية'' هذه الميليشيات بإزالة الغطاء النباتي عنها وسلبها ميزة استراتيجية هامة، حيث كانت تستغل الأحراج والغابات الكثيفة للاختباء وشن الهجمات المناوئة.
من أجل تحقيق ذلك، قامت القوات الأميركية طوال فترة الحرب بإلقاء أكثر من 20 مليون غالون من أقسى المبيدات النباتية سمية وفتكاً. بدأت هذه العمليات عام 1961 بموافقة الرئيس جون كينيدي، وتنامت بعد ذلك باطراد لتبلغ ذروتها عام ،1965 قبل أن تقل وتتوقف مع نهاية الحرب عام 1971. وقد ظلت ماهية هذه المبيدات الغامضة سرية ومحاطة بالتعتيم والتكتم الشديدين لفترة طويلة، إلا أن الأمر تكشف مؤخراً فاضحاً مدى فظاعة الجرم المرتكب. فقد تبين أن الجيش الأميركي تعاقد مع كبرى شركات صناعة الكيماويات في أميركا لتصنيع كميات هائلة من المبيدات النباتية(antiplant agents) (15 نوعاً) التي تبين احتواء معظمها على الديوكسين، وهو من أخطر المواد الكيميائية  للانسان والبيئة.
شُحنت هذه السموم في براميل خاصة في إطار من السرية. وإمعاناً في التعتيم، وللتفرقة بين أنواع المبيدات المختلفة، لونت البراميل بألوان محددة بديلاً عن الاسم الكيميائي. ومن هنا عرفت هذه المبيدات بأسماء مثل العامل البرتقالي والأبيض والأخضر والأرجواني والأزرق وغيرها.
كان ''العامل البرتقالي'' (Agent Orange) المحتوي على الديوكسين أكثر تلك المبيدات ضرراً وفتكاً والأكثر استخداماً من قبل القوات الأميركية. وقد تركز استخدامه في تدمير الأشجار الاستوائية والغابات والحشائش وأشجار الخيزران المنتشرة في جنوب فيتنام وعلى الحدود الكمبودية المجاورة. يأتي في المرتبة الثانية ''العامل الأزرق'' وهو مبيد أعشاب زرنيخي شديد الفاعلية في سحب الرطوبة من أوراق النباتات مما يؤدي الى تجفيفها والقضاء عليها في الحال. لذا استخدم في تدمير محاصيل الرز، غذاء الفيتناميين الأساسي، بغرض تجويع القرى والمدن الموالية للمقاومة، في ما عرف آنذاك  بعمليات ''إبادة الرز''.
نصف مليون مشوّه
الثابت أن استخدام العامل البرتقالي وأخواته أدى الى نتائج وتداعيات مأسوية ممتدة حتى اليوم. هذه التداعيات لم تصب فقط الغابات والمحاصيل، بل أصابت أيضاً كل من كان فيها، إنساناً وحيواناً، بقائمة طويلة من التشوهات والأمراض المزمنة والسرطانية.
واذا ما ابتدأنا بالأضرار البيئية، فسوف نجد أن ما لا يقل عن مليون ونصف مليون هكتار من الغابات، منها نحو 125 ألف هكتار من أشجار المنغروف النادرة، أبيدت عن بكرة أبيها. كما أبيدت مساحة أخرى من المحاصيل الزراعية تقدر بنحو 300 ألف هكتار، في ما كان يشكل معاً خمس مساحة المناطق الخضراء في فيتنام على أقل تقدير، وهي مساحة كانت تكفي لإطعام نحو 245 ألف فيتنامي.
والمحزن أكثر أن التدمير كان مركزاً وشاملاً، بحيث أضحى أي جهد لإصلاح الأرض المخربة أو إعادة تأهيل الغابات المدمرة مضيعة للمال والوقت. لذا، ورغم مرور أكثر من أربعة عقود على تلك العمليات الرهيبة، ما زالت غالبية المناطق الخضراء المدمرة على حالتها، خربة ناطقة بكل معاني الدمار، ما يعني خسارة الفيتناميين موارد وثروات بيولوجية وطبيعية متجددة كانت من حق أجيالهم الحالية والقادمة.
أما في ما يخص الخسائر البشرية، فتشير بعض التقديرات الى أن أكثر من ثلاثة ملايين فيتنامي تعرضوا للعامل البرتقالي، وأن أكثر من مليون أصيبوا بأمراض تنفسية وجلدية وتشوهات خلقية جراء التعرض لهذه المواد المسرطنة. والثابت على أي حال أنه، على رغم مرور أكثر من 35 عاماً على انتهاء الحرب، ما زالت آثار المبيدات السامة سارية في أجساد الفيتناميين وأبنائهم حتى الآن. والدليل على هذا استمرار توالد أجيال مشوهة وظهور أعراض سرطانية وأمراض جلدية وعصبية في نسبة كبيرة ممن تعرضوا لهذه المبيدات. بيد أن الأمر لم يقتصر على الفيتناميين، فهناك عدد كبير من المقاتلين الأميركيين ممن شاركوا في تعبئة تلك المبيدات المهلكة أو نقلها أو رشها، أصيبوا أيضاً بأمراض مستعصية، وولدوا أجنة وأبناء معاقين ذهنياً وبدنياً.
جريمة لا تسقط بالتقادم
كان من الطبيعي أن تثير الأضرار والمآسي البيئية والإنسانية الهائلة التي خلفها العامل البرتقالي والمبيدات السامة الأخرى غضب عدد كبير من جمعيات العمل المدني والمنظمات الحقوقية، سواء في فيتنام أو في أميركا. وهو ما دفعها الى تحريك دعاوى قضائية ضد الحكومة الأميركية والشركات الكيمائية التي أنتجت تلك المواد، باعتبار ما حصل جريمة إنسانية كبرى لا يجوز التغاضي عنها ولا تسقط بمرور الزمن.
وفي حين نجحت جماعات الضغط الأميركية في الحصول على بعض التعويضات من تلك الشركات ومن الحكومة الأميركية ذاتها لصالح قدامى المحاربين الأميركيين ممن أصيبوا بآثار العامل البرتقالي، لم تنجح الجمعيات المدنية الفيتنامية في الحصول على أي تعويض، وكان رفض المحاكم الفدرالية الأميركية هو الرد الدائم على تلك الدعاوى، باعتبار أنه لا يوجد سند أو أساس قانوني لها. والحال لم تختلف كثيراً على مستوى المفاوضات الثنائية بين الحكومتين. فالحكومة الفيتنامية لم تنفك عن المطالبة بتعويضات مناسبة لمعالجة آثار الحرب، لكن الرد الأمريكي لم يخرج في معظم الأحوال عن التنصل عن المسؤولية بحجة أن لا أدلة علمية دامغة على مسؤولية العامل البرتقالي والمبيدات الأخرى في الإصابات والتشوهات الناتجة.
ويبدو أن صلف الموقف الأميركي بدأ يلين مؤخراً، اذ وافقت الإدارة الأميركية في شباط (فبراير) 2007 ولأول مرة على صرف 400 ألف دولار للمساهمة في نفقات إزالة آثار العامل البرتقالي من إحدى القواعد الأميركية السابقة في مدينة دانانغ الفيتنامية. وعلى رغم أن هذا المبلغ يعد رمزياً بكل المقاييس، إلا أنه يمثل تغيراً هاماً في الموقف الاميريكي ويعني إمكانية الحصول على مزيد من التعويضات مستقبلاً.
لكن هذه المبادرة لن تغير الأمر كثيراً، فالواقع يقول انه مهما أنفق الجانب الأميركي من أموال، ومهما مر من زمان، فسوف تبقى جريمة رش البيئة والأجساد الفيتنامية بأبشع السموم إحدى أبرز الجرائم البيئية السوداء في التاريخ، كما سيبقى استمرار توالد الأجيال المشوهة في تلك الدولة البائسة دليل إدانة دامغاً ضد كل من ساهم في اقترافها.
 
 
 
 

اضف تعليق
*الاسم الكامل  
*التعليق  
CAPTCHA IMAGE
*أدخل الرمز  
   
 
بندر الأخضر صديق البيئة
(المجموعة الكاملة)
البيئة والتنمية
 
اسأل خبيرا
بوغوص غوكاسيان
تحويل النفايات العضوية إلى سماد - كومبوست
كيف تكون صديقا للبيئة
مقاطع مصورة
 
احدث المنشورات
البيئة العربية 9: التنمية المستدامة - تقرير أفد 2016
 
ان جميع مقالات ونصوص "البيئة والتنمية" تخضع لرخصة الحقوق الفكرية الخاصة بـ "المنشورات التقنية". يتوجب نسب المقال الى "البيئة والتنمية" . يحظر استخدام النصوص لأية غايات تجارية . يُحظر القيام بأي تعديل أو تحوير أو تغيير في النص الأصلي. لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر يرجى الاتصال بادارة المجلة
©. All rights reserved, Al-Bia Wal-Tanmia and Technical Publications. Proper reference should appear with any contents used or quoted. No parts of the contents may be reproduced in any form by any electronic or mechanical means without permission. Use for commercial purposes should be licensed.