Thursday 25 Apr 2024 |
AFED2022
 
AFEDAnnualReports
Environment and development AL-BIA WAL-TANMIA Leading Arabic Environment Magazine
المجلة البيئية العربية الاولى
 
موضوع الغلاف
 
حسن برتو الآثار البيئية للحـروب والنزاعات  
شباط (فبراير) 2009 / عدد 131
 منذ منتصف القرن العشرين بدأ تزايد النزاعات والحروب الكبرى في العالم العربي يؤثّر سلباً على سلامة البيئة في المنطقة. والعلاقة بين البيئة والنزاعات مزدوجة: فهي أولاً علاقة سببية كما أنّها علاقة من حيث الضرر الذي يلحق بالبيئة. أمّا أبرز الدوافع البيئيّة الى نشوب النزاعات في المنطقة فهي النفط وندرة الماء والصدامات المحليّة بين الرعاة والمزارعين حول حقوق الرعي والمياه.
وقد تعرّض العراق لأضرار بيئيّة جسيمة بعد أن خبر ثلاث حروب خليجيّة مدمّرة. وبات الجيل الحالي والأجيال المقبلة معرّضة لمآزق معقّدة جداً بسبب إرث العقوبات الدوليّة، وتعرّض المنشآت العسكرية والصناعيّة للنهب، والمخاوف بشأن استعمال اليورانيوم المستنفد. وكانت الآثار البيئيّة المباشرة على السودان محدودة نسبيّاً. غير أنّ الحرب الأهلية المستمرّة هناك تنبئ بفداحة الآثار غير المباشرة التي ستنتج منها. وفي حين عانى لبنان من ضرر بيئيّ هائل بسبب حرب تموز (يوليو) 2006، فإنّ الآثار الطويلة الأمد لهذه الحرب أقلّ خطورة، كما أنّ التحرّك الفعّال للسلطات حدّ من هذه الخطورة. في العموم، كانت ردود الفعل الوطنيّة والاقليميّة على الأسباب والنتائج البيئيّة للأزمات بطيئة وضعيفة. فعلى الصعيد الدولي، اضطلع برنامج الأمم المتحدة للبيئة بدور أساسيّ في مساعدة الدول على مواجهة المشاكل البيئيّة للأزمات. ومن المقترح أن ينشئ العالم العربيّ آليات تمويل جديدة لمساعدة الدول التي مزّقتها الحرب على مواجهة التحدّيات الـبـيئيّة، وتعزيـز الإدارة البيئيّة، وتعزيز التعاون الدوليّ، بما في ذلك مع الأمم المتحدة، في شأن هذا الموضوع الناشئ والهام.
تطبع الحروب تاريخ الشرق الأوسط. وتشهد المنطقة حالياً نزاعين دوليّين كبيرين (النزاع العربي ـ الإسرائيلي والحرب في العراق) وخمسة نزاعات داخليّة على الأقل (الجزائر، الصومال، السودان، الصحراء الغربية/المغرب، اليمن).
وعانى لبنان من حرب قصيرة ولكن كبيرة في صيف 2006، وهو لا يزال مذ ذاك في حالة من الغليان. وتعاني عدّة بلدان مزيجاً من النزاعات الدوليّة والمدنيّة، بما فيها العراق والأراضي الفلسطينيّة والصومال. علاوةً على ذلك، عصفت بالمنطقة موجة من الارهاب الدوليّ. وفي حين أنّ وسائل الإعلام تنقل إلى حدّ ما الفظائع والمآسي الإنسانيّة التي تخلّفها الحرب، فإنّ نتائجها البيئيّة أو ما يعرف بـ ''النتائج الملازمة'' لا تحظى إلاّ بتغطية محدودة أو انتقائيّة، أو لا تحظى بأيّ تغطيّة. كما أنّ صانعي سياسات البلدان العربيّة وأصحاب القرار فيها لم يحرزوا إلاّ تقدماً محدوداً في الاعتراف بالأبعاد والآثار البيئيّة المعقّدة للأزمات وفي معالجتها.
تتشـكّـل الصراعات عادة من طبقات عدّة ومتداخلة من الأسباب التي تتراوح بين الايديولوجيّة والسياسيّة، مروراً بتلك الخاصّة بالشخصيّات، وصولاً الى الأسباب الاقتصاديّة والتجاريّة. كما باتت الموارد الطبيعيّـة، أو كما يقال في اللغة البيئيّة ''سلع النظام البيئيّ وخدماته''، تعتبر أحد الدوافع الممكنة للنزاعات. وغالباً ما يتمحور نقاش المثقفين بشأن دور البيئة كعنصر مساهم في إثارة النزاعات العنيفة حول مبدأين أساسيّين هما: ''لعنة الموارد'' أو مفارقة التخمة، والتنافس على الموارد في ظلّ ندرتها وتدهور البيئة وتغيّرها على المدى الطويل. ومهما تكن النظرة إلى الموارد من حيث وفرتها أو ندرتها، فمن الأهميّة بمكان التشديد على أنّ الصلة بين البيئة والنزاعات هي، في غالبيّتها، غير مباشرة وتتداخل مع ضغوط اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة أخرى.
 
لعنة الموارد
النفط هو المورد الطبيعيّ الأوّل والأثمن في الحضارة العصريّة. ويضمّ العالم العربيّ، بفعل الجغرافيا، نصف احتياطي النفط العالميّ المثبت وجوده على الأقلّ.
وعلى رغم أنّ الثروة النفطيّة يُفترض أن تكون نعمةً، فقد ثبت في بعض البلدان أنها عائق. إنّ لعنة النفط عبارة عن مأزق متعدّد الأوجه. ووفقاً لهذه النظريّـة، فمن شأن الثروة المفاجئة التي تدرّها عائدات النفط أن تقوّض الحكم الرشيد من خلال إثارة الفساد والمجازفات والنزاعات العنيفة. أضف أنّ الاقتصاد الذي يسيطر عليه النفط يضرّ بقطاعات أخرى (ولا سيّما قطاع الزراعة) إذ يقلّص من أهميتها ويكبت النشاطات الإبداعية الكامنة التي كان من الممكن أن تكون أفضل الوسائل لتحقيق التقدّم التكنولوجي وتأمين طريق أكثر استدامة نحو التنمية. لكن دول الخليج، بعدد سكّانها الضئيل، تشكّـل استثناء، إذ إنها قادرة على أن تضمن لمواطنيها معايير عيش عالية وثروة استهلاكيّة وفيرة. بالتالي فإنّ الحكم بشكله المعتدل المتمثّل بالحكم ''الأبوي'' هو القاعدة بصورة عامّة. غير أنّ البلدان المتوسطة الدخل الأكبر والأكثر اكتظاظاً، كالعراق، هي التي تكون أكثر عرضة للوقوع في شرك لعنة النفط. ذلك أنّ أرجحيّة تحويل الثروة النفطيّة لمصلحة تدابير أمنيّـة، من أجل أهداف عسكريّة وكبت الاضطراب الاجتماعي، عالية نسبياً.
إلى جانب تضخيم خطر النزاع العنيف، يقوّض الحكم السيئ في بعض الدول المنتجة للنفط الإدارة المستدامة للبيئة، لا سيّما أنّ هذه الأدارة تتمحور حول مبادئ النفاذ إلى المعلومات، ومشاركة الجمهور، وعملية صنع القرار الشفّافة المبنيّة على تحليل نسبة الكلفة إلى الفائدة، وعلى المساءلة. ويصعب تحقيق هذه التوازنات في ظلّ حكم ضعيف، وبالتالي، فإنّ العمليات النفطية الكبيرة عرضة لتخليف وقع بيئيّ سلبيّ في حال لم توضع لها قيود. مثال على ذلك السودان، حيث أنّه على رغم إلزاميّة إجراء تقييم للأثر البيئي بموجب القوانين السودانيّة، فإنّ هذا التقييم لا يجرى عملياً. لذلك فأن إخفاق صناعة النفط في دمج الاعتبارات البيئيّة مع مشاريعها أثار استياء المجتمعات المحليّة، لا سيّما سكّان جنوب السودان غير العرب (وذلك بسبب أثر المياه المنتجة غير المعالجة على المراعي بصورة أساسيّة). وقد أدّى سوء الأداء البيئيّ لصناعة النفط، مقروناً بتزايد الخلافات حول تشاطر العائدات، إلى تفاقم الصراع حول النفط في السودان.
ولا بدّ من الإشارة أيضاً إلى أنّ غياب حسن الإدارة البيئيّة أو عدم ملاءمتها يمكن أيضاً أن يكون مصدراً كامناً للنزاع على مشاريع أخرى خاصّة بالبنى التحتيّة. وفي هذا الإطار شكّلت عملية بناء سدّ مروي الضخم وغيره من السدود المخطّط لها في شمال السودان مصدراً للتوتّر الذي تحوّل في أكثر من مناسبة إلى مواجهات عنيفة. وفي حين كان سدّ مروي أول مشروع سد في السودان يعدّ له تقييم للأثر البيئيّ، فإنّ إجازة التقييم لم تصدر إلا بعد سنتين من المباشرة بتنفيذ المشروع، ولم تجر مشاورات مع ممثّلي السكّان المحلّيّين ولا مع المجتمعات المحليّة حول نتائج هذا التقييم.
في الوقت عينه، وضع التنافس الدوليّ على موارد النفط العالمَ العربيّ على مفترق نزاع عالميّ حول الموارد. ويمكن القول إنّ الدافع وراء حرب الخليج الأخيرة عام 2003 هو جزئياً الرغبة في ضمان تدفّق النفط من المنطقة بأمان. كما تدور الشكوك حول كون الصراع الدوليّ على دارفور يعود إلى حدّ ما إلى التنافس على مصادر الطاقة. وعلى الصعيد الوطنيّ، فإنّ التنافس على عائدات النفط، إن جاء على شكل مخصّصات الميزانيّة وتوزيعها على الوزارات أو بصورة قتال بين الميليشيات، يغذّي النزاع ويطيله. ومع أنّ النزاع بين الشمال والجنوب في السودان يسبق تاريخ اكتشاف النفط، فإنّ التنافس على امتلاك احتياطي هذا البلد من النفط كان قوّة دافعة عزّزت الصراع. كما أنّ الخصام حول تقاسم الثروة النفطيّـة ساهم في تفاقم العنف الطائفيّ في العراق. وما الصراع القائم حالياً في البصرة للسيطرة على صناعات النفط الكبرى فيها وعلى تجارة التهريب إلاّ مثال على ذلك.
 
ندرة الموارد البيئيّة وتدهور البيئة
وتغيّرها على المدى الطويل
الوجه الآخر للنقاش، مع أنه ليس على تعارض تامّ مع مقولة ''لعنة الموارد''، يركّز على كون ندرة الموارد البيئيّة وتدهور البيئة سبباً من أسباب النزاع. وهو يستند إلى أن ندرة الموارد قادرة على إشعال شرارة الانهيار الاجتماعيّ والنزاعات العنيفة. والمثال الأبرز على ذلك هو الصراع القديم العهد بين الرعاة والمزارعين، الذي يُرمَز إليه دينيّاً بقتل قايين (المزارع) لأخيه هابيل (الراعي). أمّا بعبارات بيئيّـة، فتدعى هذه أحياناً ظاهرة ''الصحراء في مقابل الواحة".
وفي العالم العربيّ ذي البيئة شبه القاحلة عموماً، تبقى الدوافع البيئيّـة الأبرز للنزاعات المحليّـة هي التنافس بين الرعاة والحَضَر على الأراضي الزراعيّة والمراعي ومصادر المياه. لكنْ تجدر الإشارة إلى أنّ النزاع على هذه الموارد في العالم العربيّ محدود غالباً بخلفيّـة بيئيّـة معيّنة، ولا يتّصل عامّة بالنزاعات إلاّ في ما ندر من الحالات. فالصدامات بين الرعاة والمزارعين في الأودية المكتظّة التي يرويها النيل ودجلة والفرات نادرة نسبياً، نظراً إلى انتظام تدفّق المياه والتداخل المحدود بين المراعي والأراضي المرويّة. والنزاع بين الفئتين لا يتعلّق بندرة الموارد بقدر ما هو ناتج تاريخياً من التنافس بين الرعاة والدولة على السيطرة السياسيّة والاقتصاديّة، وهو تنافس توقّف عملياً في الشرق الأوسط الحديث. ومن العوامل التي تؤدّي إلى الحدّ من هذا الخلاف التواجد القويّ للحكومات المركزيّة، والانخفاض الكبير في عدد الرحّل، والاعتماد على مصادر مياه اصطناعيّة.
من جهة أخرى، تتكرّر الصدامات بين الرعاة والمزارعين أكثر في البيئات التي تعتمد فيها المراعي والزراعة على حدّ سواء على المطر، وحيث تُـجَـرّ المياه بصورة أساسيّة من ينابيع طبيعيّة موضعيّة. بالتالي، فإنّ العامل الحاسم هنا هو كميّة المطر. والتقلّب الشديد في نظام التساقطات الذي يميّز المناطق القاحلة وشبه القاحلة يجعل المزارعين، ولكن بصورة أخصّ الرعاة، أكثر عرضة لندرة المياه حيث أنهم يواجهون خطر فقدان قطعان ماشيتهم بكاملها. ويسعى الرعاة إلى التكّيف مع انعدام التوازن البيئيّ هذا من خلال التنقّل. وتبدأ العلاقة بين الرعاة والمزارعين بالتأزّم خاصّة خلال فترات الجفاف، وتتّجه إلى التدهور. في الماضي، كان بالإمكان التخفيف من الضغوط البيئيّة والتوترات الاجتماعيّة لأنّ الأرض كانت متوفّرة بكثرة نسبياً وكان بإمكان الرعاة الانتقال إلى مناطق جديدة. ولكن مع بروز الحدود الاصطناعيّة التي تحدّ من تحرّك الرحّل، والازدياد الكبير في عدد السكان والماشية، وتوسّع رقعة الزراعة الآلية في الأراضي المتاخمة، قلّت خيارات التنقّل إلى حدّ كبير، مما زاد إمكانية نشوب نزاعات بين الرعاة والمزارعين.
وتسود هذه المعادلة في منطقة جنوب الصحراء على تخوم العالم العربيّ ولا سيّما في الصومال والسودان. وقد تفاقم الوضع بشكل خاصّ في مناطق الساحل والسافانا نظراً لكونها ملائمة للمراعي وللزراعة البعليّـة. أما المثال الأشهر على نزاع ينشأ في مثل هذه الظروف فالأزمة الحاصلة حالياً في دارفور. من الواضح أنّه لا يمكن أن تُختزَل الحرب في دارفور بحرب على الموارد الطبيعيّة، ولا بدّ من الاعتراف الكامل بطابعها السياسيّ والاقتصاديّ والإثنيّ البارز، إلى جانب النواحي الأخرى.
وفي الوقت عينه، وبغيّة فهم أفضل لطبيعة النزاع، لا بد من الاعتراف بأنّ الظروف البيئيّة أدّت دوراً هاماً في تسريع نشوب النزاعات المركّزة بين الرعاة العرب ذوي السحنة الداكنة والمزارعين الأفارقة، تلك النزاعات التي زادت وتيرتها مع بداية فترة الجفاف الطويلة في السبعينات والتي وصلت إلى ذروتها في التسعينات. وتظهر الدراسات الأخيرة حول النزاع في دارفور أنّ التنافس على حقوق الرعي والمياه كانت سبب وقوع 30 صداماً من أصل 41 صداماً سجل حدوثها في الفترة بين 1930 و2000.
وإذا ما أردنا وصف النزاع ببساطة، فإنّ القبائل العربيّة (وكذلك الزغاوة غير العربيّة) حاولت النجاة من الجفاف الطويل الأمد من خلال اللجوء إلى مناطق الفور والمساليت الغنيّة بالمياه والمرعى، على غرار أعالي جبل مرّة. وبدأت الاتفاقات التي كانت معقودة بين الرعاة والمزارعين بالتزعزع نظراً إلى أنّ الرعاة أخذوا يتوافدون قبل الفترات المعهودة (قبل أو خلال فترات الحصاد) ويبقون في المراعي لفترات طويلة غير محدّدة. بالتالي باتت المواجهات بين الفريقين محتّمة. وتصاعد العنف إلى حدّ ارتفع فيه عدد الخسائر البشريّة إلى ما يقدّر بين 200,000 و500,000 قتيل، إضافة إلى مليوني مهجّر.
وليس إقليم دارفور وحده الذي يعاني هذا المأزق البيئي، بل هناك أوجه تشابه كثيرة مع نزاعات أخرى بين الرعاة والمزارعين في منطقة وسط السودان الجافّة كإقليم كردفان الجنوبي، وإن كان للزراعة الآلية في هذا الإقليم دور أكبر في إثارة الأزمات من تقلّبات المطر والجفاف. فالتوسّع الأفقي للزراعة الآلية في السهول الصلصالية في حزام السافانا ذي معدل التساقطات العالي والمراعي الشتائيّة التقليديّة في حوازمة البقّـارة (مربّو الماشية)، وبدو شنبلة، دفع الرعاة إلى التوغّل أكثر في جبال النوبة بحثاً عن الماء والمرعى لمواشيهم. كما اندلع نزاع مسلّح واسع النطاق بين الرعاة ومزارعي النوبة من السكان الأصليين. ولا تزال الزراعة البعليّـة غير المنظّمة والسيّئة الإدارة، التي تغطّي حوالى 6,5 مليون هكتار تضمّ 45 إلى 66% منها مزارع غير شرعية، سبباً رئيساً في الصدامات العنيفة بين الرعاة والمزارعين في منطقة السودان الوسطى.
ومن أشكال النزاعات الأخرى بين الرعاة والمزارعين قيام كلّ من المجموعتين بالتعدّي على الغابات والمحميّات البريّة بسبب ندرة الأراضي الزراعيّة والمراعي، مثل حديقة دندر الوطنية، أكبر محميات السودان، التي تعادل مساحتها مساحة لبنان. وفي هذه الحالات، فإنّ النزاع، الذي غالباً ما يتحوّل إلى صدامات عنيفة، يقع بين الرعاة والمزارعين من جهة والمسؤولين الحكوميّين من جهة أخرى (حرّاس الغابات الذين هم جزء من قوّات الشرطة الموحّدة السودانيّة). وبما أنّ حديقة دندر الوطنية متاخمة لإثيوبيا، فإنّ حرس الحدود وجدوا أنفسهم في خضمّ المعركة أحياناً بسبب توغّل الرعاة من الجانبين.
ويؤدّي تدهور البيئة أيضاً إلى تغذية نار التنافس بين الرعاة والمزارعين. أمّا العاملان الأساسيان وراء ذلك فهما، من جهة، الإفراط في الرعي وفي أعداد الماشية مما يستنزف المراعي، ومن جهة أخرى توسّع رقعة الزراعة التقليديّة الآلية إلى أراض هامشية غالباً ما تتعدّى على ممرات هجرة المواشي مما يؤدّي إلى زوال مفرط للنبات والغابات. وتؤدّي هذه الضغوط مجتمعة إلى تفاقم التصحّر وتآكل التربة واستنزافها. ومع تدهور قاعدة المورد الطبيعيّ وتضاؤله، يتزايد الطلب على المراعي والمياه التي تزداد ندرة، بسبب معدّلات النموّ المرتفعة للبشر والماشية. فقد شهد السودان مثلاً، الذي يضمّ ثاني أكبر قطيع في القارّة، ازدياد عدد الماشية بأكثر من ستة أضعاف في أقلّ من خمسين سنة، حيث ارتفع العدد من 22 مليون رأس عام 1959 إلى 135 مليون رأس عام 2004. وفي الوقت عينه، انخفضت مساحة المراعي على الصعيد الوطني بما يتراوح بين 20 و50 في المئة، والسبب في ذلك يعود بشكل كبير إلى التحوّل إلى الزراعة البعليّة الآلية. أمّا النتيجة فدخول الصراع بين الرعاة والمزارعين في دوّامة مفرغة يغذّي نارها تفاقم الندرة وتؤدّي في نهاية المطاف إلى زيادة إمكانيّة وقوع نزاعات عنيفة والحدّ من فرص التسوية.
في الإطار نفسه، يتيح تحليل ندرة الثروات البيئيّة فهماً أعمق للنزاع العربي ـ الإسرائيلي. فترسيم الحدود في هذه المنطقة كان نابعاً جزئياً على الأقلّ من هدف ضمان السيطرة على الأراضي الهيدرو ـ استراتيجيّة. فإنّ توسيع حدود الانتداب على فلسطين إلى الشمال مثلاً مردّه جزئياً إلى إرادة ضمّ بحيرتَي طبريا والحولة وجزء من أعالي نهر الأردن. ذلك أنّ ضمان السيطرة على مستجمعات أمطار نهر الأردن العليا يعتبر أحد العوامل الأساسيّة وراء احتلال إسرائيل لمرتفعات الجولان السورية وضمّها. وهناك صلة كذلك بين توسيع رقعة المستوطنات والمسار المعتمد في بناء الجدار الفاصل من جهة، واهتمام إسرائيل بالحفاظ على سيطرتها على مناطق التغذية بالمياه ومخزون الطبقات الصخريّـة المائيّة الاستراتيجيّـة في الضفة الغربيّـة.
أمّا في غزّة، التي تعتمد اعتماداً كبيراً على الآبار، فالمشكلة تكمن في تسرّب مياه البحر بسبب الإفراط في ضخّ المياه الجوفيّة. كما أنّ الشكوك في نيّات إسرائيل باستغلال مياه الليطاني هي مصدر نـزاع إضـافيّ. وعلى رغم أنّ ندرة المياه والسيطرة على المناطق المنتجة للماء ليست بالضرورة المحفّز الوحيد أو الأساسي للحرب، لكنّها جزء لا يتجزأ من النزاع العربي ـ الإسرائيلي.
 
الأثر البيئيّ للنزاعات
التقييم العلمـيّ للآثار البيئية للنزاعات يصنفها بصورة عامّة على أنّها مباشرة أو غير مباشرة. أمّا الآثار المباشرة فهي تلك التي يمكن أن تتّصل ماديّاً ومباشرة بعمليّة عسكريّة والتي غالباً ما تنشأ في المدى القصير المباشر (يصل إلى 6 أشهر). وأمّا الآثار غير المباشرة فهي تلك التي يمكن أن تعزى بشكل موثوق إلى النزاع ولكنّها تتفاعل عادة مع شبكة من العوامل ولا تظهر كاملة إلاّ على المدى المتوسط والطويل. ومن الأمثلة على الأثر المباشر التلوّث البيئيّ الناجم من قصف مدفعي لمواقع صناعيّة، والتدمير المتعمّد للموارد الطبيعيّة، والمخلّفات العسكريّة وحطام البنى التحتيّة المستهدفة. أمّا الأثر غير المباشر فيمكن أن يتمثّل بالآثار البيئيّة التي يخلّفها النازحون، وانهيار الإدارة البيئيّة، والفراغ على صعيد البيانات، وانعدام التمويل لحماية البيئة.
 
العراق: أطول حرب عربية
في القرن العشرين
نظراً إلى حجم النزاع العسكري في العراق، لا عجب أن تكون البيئة قد تعرّضت، بسبب الحرب، لضرر لم تتعرّض له البيئة في أيّ بلد آخر في العالم العربي، وربما في العالم بأسره. فخلال العقود الثلاثة الماضية انتقل البلد من حرب كبرى إلى حرب كبرى أخرى، وذلك في إطار عامّ من الصراعات المدنيّة الداخليّة والعقوبات الدوليّة الصارمة.
كانت الحرب مع إيران التي دامت ثماني سنوات (1980 ـ 1988) أطول حرب في العالم العربيّ في القرن العشرين، وقد ذكّرت سمتها الأساسيّة المتمثّلة بحرب الخنادق والأسلحة الكيميائيّة بالحرب العالميّة الأولى. ووقع القتال الأعنف في مصبّ شطّ العرب ومنطقة الأهوار. وفي الوقت عينه، كان كامل الحدود العراقية ـ الإيرانيّة الممتدّة على طول 1500 كيلومتر، والتي لا تزال مزروعة بالألغام حتى اليوم، جبهة مشتعلة استعملت فيها الحكومة العراقيّة أسلحة كيميائية ضدّ المواطنين الإيرانيّين والعراقيّين على حدّ سواء. وعلى الرغم من قدرة الفتك الهائلة للمواد الكيميائيّة المستعملة، فإنّ دوامها القصير الأمد نسبياً في البيئة (بين 30 دقيقة لغاز التابون وسنتين لغاز الخردل) يعني أنّ أيّ مخلّفات باقية منها لا تمثّل سوى خطر محدود اليوم. وقد شنت بعض الغارات على المدن، ولكن لم تتعرّض المناطق الأخرى في البلاد بصورة عامة لعمليات عسكريّة، وبالتالي لأثر بيئيّ مباشر. يخيل لمن ينظر من الفضاء الى الحدود الإيرانيّة العراقيّة اليوم، المشوهة بالخنادق والتحصينات والحفر التي خلّفتها القنابل والحقول الملغومة، أنه يرى سطح القمر المحفّر. كما أنّ التغيير المادي الكبير الذي أصاب المنظر الطبيعيّ (مستنقعات وشبه صحراء) بسبب أعمال الحفر الضخمة كان خطيراً إلى درجة لم تعد فيها الخرائط الطوبوغرافية القديمة صالحة. وقد ساهم بناء التحصينات الدفاعيّة والممرّات العسكريّة في الأهوار في تجفيفها، فانخفضت مساحتها نحو 20 إلى 25 في المئة بحلول 1990. وقد قضي على مزارع النخيل الواسعة التي تحيط بمصبّ شطّ العرب على ضفتيّ الحدود، فتلفت ملايين الأشجار بسبب القصف والحرق والقطع المتعمّد.
ولحق بالبيئة البحريّة للخليج ضرر جسيم خلال ما سمّي ''حرب الناقلات'' التي دمِّر خلالها ما يزيد على 500 ناقلة نفط تجاريّة واستهدفت منشآت النفط الرئيسيّة. أمّا الحادث الأسوأ فكان قصف منصة نوروز الإيرانيّة، حيث انسكب ما يقدر بمليوني برميل من النفط. ويبقى حطام السفن الغارقة الذي خلّفه النزاع مشكلة كبيرة إلى يومنا هذا، مع ما يمكن أن يخلّفه من آثار بيئيّة لا بدّ أن تؤخذ بعين الاعتبار في عمليات الإنتشال المستقبليّة. وقد شهدت المراحل الأخيرة من الحرب حملة الأنفال حيث دمِّر ما يقارب 4000 قرية كرديّة، الأمر الذي ترك أثراً بيئياً ظاهراً تراوح بين نزوح أعداد ضخمة من السكان وتدمير البساتين والمحاصيل والمراعي. وفي نهاية الحرب كان اقتصاد العراق في حالة إفلاس، وبات عمل مديريّة البيئة التي أنشئت عام 1972 ضمن وزارة الصحّة مقتصراً بصورة أساسيّة على أخذ عيّنات روتينية لفحص نوعيّة مياه الشفة.
وفيما كان الوضع على هذه الحال، خاض العراق حرباً ثانية مع اجتياحه للكويت عام 1990، الذي تبعته ''عاصفة الصحراء''، الحرب التي خاضتها ''قوات التحالف''. ومع أنّ الحرب دامت أقلّ من ستّة أسابيع، فقد استهدفت الحملة العسكريّة جميع أنواع البنى التحتيّة، العسكريّة منها والمدنيّة، بما في ذلك مصانع تكرير المياه المبتذلة ومصانع الإمداد بالمياه، ومحطات توليد الطاقة، والجسور، ومحطات تكرير النفط، والصناعات البتروكيمائيّة، ومرافق الأسلحة النوويّة والبيولوجيّة والكيميائيّة. وقد أطلق أكثر من 290 طناً من قذائف اليورانيوم المستنفد على العراق خلال حرب الخليج عام 1991 (في مقابل 9 أطنان في كوسوفو و3 أطنان في البوسنة والهرسك). ويمكن الافتراض أنّ الأثر البيئيّ لحملة القصف المكثّفة هذه سيكون كبيراً حتى لو لم يتمّ بعد تقييمه علمياً. فبعدها مباشرة فرضت الأمم المتّحدة عقوبات صارمة على العراق، فألزم بدفع التعويضات مقابل أضرار الحرب بما فيها الأضرار البيئيّة. وفي الوقت عينه منع من حقّ إعادة إحياء بنى تحتيّة وخدمات اجتماعيّة أساسيّة، بما في ذلك استيراد قطع الغيار لإعادة تأهيل مصانع تكرير المياه المبتذلة مثل مصنع الرستمية في بغداد الذي كان يضخّ 300 ألف متر مكعّب يومياً من المياه المبتذلة غير المعالجة في نهر دجلة، مع ما يرافق ذلك من عواقب خطيرة على الإنسان والبيئة.
وفرضت لجنة التعويضات التابعة للأمم المتّحدة على العراق دفع 243 مليون دولار إلى الكويت وإيران والأردن والسعوديّة وسورية من أجل تقييم الأضرار البيئيّة التي تعرّضت لها. ومع انفجار ما يزيد على 600 بئر نفط أنتجت حوالى 500 ألف طن من الملوّثات يومياً، وانسكاب 25 إلى 50 مليون برميل في البر، بالإضافة إلى أكبر بقعة نفطيّة في البحر شهدها التاريخ (6 إلى 8 ملايين برميل)، كان الخراب الذي تعرّضت له الكويت والبيئة البحريّة في الخليج هائلاً. والمشهد الأكثر وضوحاً للتدمير البيئي كان سحب الدخان الأسود الكثيفة في سماء المنطقة، الناجمة عن حرائق آبار النفط التي استمرت أكثر من شهر، فلوثت هواء المنطقة ووصلت الى بلدان بعيدة. في ما يتعلّق بالكويت وحدها، قدّر الضرر البيئي بنحو 40 بليون دولار أميركي، ما يمثّـل 16 في المئة من مجمل تعويضات الحرب التي طالبت بها. ونرى اليوم أنّ مجموع الكتب والمقالات البيئيّة العلميّة حول آثار الحرب على الكويت والبلدان الأخرى (باستثناء العراق) يفوق بأشواط مجموع ما كتب عن النزاعات الأخرى. وأخيراً، قامت اللجنة الخاصّة للأمم المتحدة (UNSCOM)، التي نيطت بها مهمة إبطال مفعول الأسلحة العراقيّة، بإزالة مئات آلاف الليترات وأكثر من ألف طن من مواد وذخائر الحرب الكيميائيّة. وحتى اليوم لم يجرَ تقييم علميّ للتلوّث البيئي الناتج من أعمال التدمير هذه.
بعد فترة قصيرة من إعلان وقف إطلاق النار عام 1991، غرق العراق في ثورة شعبيّة كبرى قمعتها الحكومة في نهاية المطاف. وبهدف معاقبة المعارضين الذين التجأوا الى الأهوار، أطلقت الحكومة العراقيّة حملة ضخمة لتجفيف ثاني أكبر نظام من الأراضي الرطبة في العالم العربي (بعد السُدّ في السودان). فبنيت قنوات وسدود ترابيّة ضخمة لتحويل مياه دجلة والفرات عن المستنقعات وتوجيهها إلى الخليج. وكانت النتيجة الصافية زوال 93 في المئة من الأراضي الرطبة بحلول 2002، مما أطاح طريقة العيش التقليديّة لعرب الأهوار التي تعود إلى آلاف السنين. وعلى رغم أنّ تدمير أهوار بلاد ما بين النهرين، مع ما تزخر به من ثروات في مجال التنوّع الأحيائي، يمثّل أكبر خسارة لنظام بيئيّ في العالم العربيّ في العصر الحديث، فان هذا العالم العربي لم يظهر اهتماماً حقيقياً بهذه الكارثة الضخمة على رغم تشعّباتها الإقليميّة الواسعة.
كان العراق، الذي كبّلته العقوبات، في حال من الضمور والركود عندما اندلعت الحرب في آذار (مارس) 2003. ولئنّ كانت عمليات القصف أعظم من تلك التي حصلت خلال حرب الخليج عام 1991، إلاّ أنها استهدفت بصورة أساسيّة المنشآت العسكريّة مع تحييد البنى التحتيّة المدنيّة إلى حدّ كبير. وفي الواقع، كان السبب الأساسيّ للضرر البيئيّ عمليات النهب والتخريب الواسعة للمنشآت العسكريّة والصناعيّة كما لمنشآت وأنابيب النفط. ومن بين المواقع الخمسة التي حدّدها برنامج الأمم المتحدة للبيئة كمواقع ''ساخنة'' ملوّثة تحتلّ الأولويّة، تمّ نهب أربعة منها في حين كان الخامس موقعاً للمخلّفات العسكرية. ولا يزال النقاش جارياً حول ما إذا كانت عمليات النهب ناجمة من سوء التخطيط أو أنّها جاءت نتيجة للإهمال، وفي هذه الحالة ينبغي تصنيف الضرر الذي ألحق بالمواقع في فئةالآثار البيئيّة المباشرة. مهما يكن الأمر، فإنّ الاخفاق في تأمين سلامة المنشآت الحسّاسة، مثل أكبر برنامج نووي عراقي في التويثة، يظهر مدى اللامبالاة وعدم إيلاء الأولويّة للبيئة. أمّا النتيجة فانتشار آلاف المواقع الملوّثة في العراق، وهي تزداد يوميّاً بسبب استمرار ممارسات التخريب والعمليات العسكريّة. ولن يصبح بالإمكان إجراء تقييم علميّ لمدى الدمار الذي لحق بالبيئة من جراء الحرب الأخيرة إلاّ عندما يسمح الوضع الأمنيّ بإجراء مسح علميّ ميدانيّ دقيق.
لقد ربط الكثير من التقارير الإعلاميّة، كما ربط بعض العلماء داخل العراق، بين اليورانيوم المستنفد وازدياد الإصابات بالسرطان والتشوهات الخَلقيّة. لكن لإقامة مثل هذه الصلة، يحتاج العراق أولاً إلى مسك سجّلات وطنيّة بهذه الاصابات. وهذا ما يفتقر إليه اليوم. ولا نعني هنا أنّ الأثر الممكن لليورانيوم المستنفد غير ذي أهميّة. لكننا نقول إنّ هذه المزاعم غير مستندة إلى ثوابت علمية، ومن شأنها أن تسيء إلى مصداقيّة دراسات العلماء المستقبليّة. يشار إلى أنّ مجموع اليورانيوم المستنفد المستعمل في حرب عام 2003 مجهول، غير أنّ الأرقام التي ترجّحها مختلف الدراسات تتراوح بين 170 و1700 طنّ. وفي حين أنّ الولايات المتحدة تعترف باستعمال اليورانيوم المستنفد، فهي لم تكشف عن كميّته وعن مكان استعماله، فيما أفادت المملكة المتحدة أنها أطلقت 1,9 طنّ.
وتشير دراسات محدودة أجراها المركز العراقي للحماية من الإشعاع بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة في أربع مناطق مختارة أنّ مستويات الإشعاع هي ضمن المستويات الطبيعيّة وأقلّ بكثير من الحدّ الذي يستدعي التدخّل. وقد يوحي هذا الأمر بأنه لا يبدو ثمة خطر خاص يحدق بالسكان وأنّ تلك الأخطار، متى وجدت، تكون محدّدة الموقع. فالأشخاص الأكثر تعرضاً للإشعاع هم الذين يمكن أن يكونوا على تماس مباشر مع ذخائر اليورانيوم المستنفد والمعدّات الملوّثة به، ولا سيّما أولئك الذين يستخدمون الخردة ويتداولونها. بالتالي، من الأهميّة بمكان التعرّف على المناطق الملوّثة باليورانيوم المستنفد وتقييمها ووضع برنامج مراقبة للسكّان الذين يُحتمَل تعرّضهم له.
في الوقت عينه، لا بدّ من تسليط الضوء على بعض التطورات البيئيّة الإيجابيّة التي حصلت بعد حرب 2003، ومنها إعادة غمر 60 في المئة من الأهوار، خصوصاً بفضل تحرّك المجتمعات المحليّة التي دعمها تدخّل وزارة الموارد المائيّة والريّ. وقد أنشئت وزارة للبيئة، وانفتح البلد أخيراً على بقيّة العالم، مما أتاح نقل المعرفة والتكنولوجيا البيئيّة والسماح للعراق بالانضمام فعلياً إلى الاتفاقات البيئيّة الدوليّة. وكانت أولها معاهدة رمسار الدوليّة للأراضـي الرطبة التي انضم اليها عام 2006، مع تعيين المنطقة الشرقيّة للأهوار (حويزة) كأوّل موقع محميّ بموجب المعاهدة، الأمر الذي يعكس انقلاباً على السياسة السابقة في تجفيف المستنقعات.
 
السودان: تكتيك الأرض المحروقة
كان الأثر البيئيّ المباشر للحرب الأهليّة التي دارت في السودان (1962 ـ 1972؛ 1983 ـ 2002)، وهي أطول حرب عرفها العالم العربي وأفريقيا، محدوداً نسبياً. فهذه الحرب هي في الواقع عبارة عن فسيفساء معقّدة من النزاعات، أهمّها الحرب الطويلة الأمد في جنوب السودان التي تطوّرت مع الوقت لتشمل جبال النوبة ومنطقة النيل الأزرق الجنوبي وشرق السودان، وأخيراً دارفور، وهي منطقة القتال المسلّح النشطة الوحيدة حالياً.
من الناحية الجغرافيّة، كان النزاع المسلّح محصوراً في المناطق السابقة الذكر، ما يعني أنّ نحو 60 في المئة من البلاد، باستثناء الشمال ومعظم الوسط، شهد عمليّات قتال في وقت من الأوقات. أمّا السبب الرئيسي في ألاّ يكون النزاع قد خلّف وقعاً مباشراً على البيئة، بالرغم من مدتّه الطويلة، فهو أنّه كان في معظمه يتمثّل في حرب ميليشيات جرى فيها القتال بأسلحة خفيفة مثل بنادق AK47.إضافة إلى ذلك، فإنّ القتال دار في منطقة تشكّل قاعدة صناعيّة صغيرة، ولا سيّما في المناطق المتخلّفة والمهمّشة، مما يعني وجود القليل من الأهداف العسكريّة أو المدنيّة التي تشكّل خطراً ماديّاً هاماً أو تولّد دفقاً من النفايات الخطرة. وما يعزّز قولنا هذا أنّ أهم هدف ''صناعيّ'' في النزاع السوداني إلى اليوم يبقى محفار قناة جونغلي الذي تعرّض للتخريب في بداية المرحلة الثانية من الحرب الأهليّة عام 1983 والذي لم يخلّف أثرًا بيئيّاً يذكر.
أما أهمّ مخلّفات النزاع العسكريّة فهي الألغام الأرضيّة وغيرها من بقايا المتفجّرات المنتشرة في 32 في المئة من البلاد، خصوصاً في الجنوب. وفي حين أنّ الألغام الأرضيّة بحدّ ذاتها لا تشكّل خطراً بيئيّاً كبيراً، إلاّ أنّ أثرها الرئيسيّ يتمثّل في إعاقة الوصول إلى الأرض والموارد الطبيعيّة، كالمراعي التي يعتمد عليها سكان الريف اعتماداً كبيراً. ففي السودان كان من المستحيل الوصول الى بعض المناطق طوال عقود، مما حدّ من قاعدة الموارد التي يعتمد عليها السكّان وأطلق دورة من الندرة والتدهور البيئيّ.
من جهة أخرى، يمكن أن يكون لصعوبة الوصول إلى منطقة ما أو إخلائها من السكّان وقع إيجابي بيئياً، كما حصل في جبال النوبة حيث عادت الغابات إلى النموّ بكثافة. كذلك تحوّلت مستنقعات السُدّ خلال النزاع إلى ''منطقة عازلة'' يستحيل النفاذ إليها، فباتت ملاذاً للحيوانات البريّة. وقد أظهرت عمليّات المسح الأخيرة التي أجريت في منطقة السُدّ عام 2007 وجود أنواع مختلفة من تلك الحيوانات، كالفيل والنعامة والأسد والفهد ووحيد القرن والجاموس، إلى جانب أعداد كبيرة من أنواع الظباء المهاجرة.
وفي دارفور أفادت تقارير المجتمعات المحليّة ومراقبين آخرين أنّ الميليشيات لجأت إلى تكتيك ''الأرض المحروقة''، فقضت على الأشجار والمحاصيل والمراعي. إنّ قطع الأشجار وإزالة النبات قد يخلّف وقعاً كبيراً على الأرض والمياه والنظام الحيويّ، ولكن يستحيل تحديد أهميّة هذه الأضرار كمّاً بسبب الافتقار إلى البيانات. ومن شأن عمليّات التخريب هذه أيضاً أن تفاقم النقص في المعلومات حول الحلقة المفرغة من التدهور البيئيّ والندرة والنزاع التي تشهدها دارفور حاليّـاً.
أدّى استمرار الحرب الأهليّة لفترة طويلة إلى زيادة وقع الآثار الجانبيّة للنزاع. أمّا النتيجة البيئيّة الأكثر جسامة فجاءت نتيجة تهجير ما يقارب الخمسة ملايين شخص، وهذا الرقم ما انفكّ يزداد بسبب استمرار النزاع في دارفور. ويمثّل عدد المهجّرين في السودان أكبر عدد للمهجّرين في العالم. وقد أدّى إلى قطع الأشجار والنبات في محيط المخيّمات، والى الإفراط في استخراج المياه الجوفيّة ونموّ اقتصاد طوارئ قد يفاقم الطلب على الموارد الطبيعيّة. ويمكن أن تعتبر دارفور، التي بلغ عدد المهجّرين فيها نحو 2,4 مليون شخص، حالة التهجير الأعظم وقعاً على البيئة  في العالم اليوم بسبب طبيعة الأرض الجافّة والهشّة. وانتشرت عمليات نهب الموارد الطبيعيّة في مناطق النزاع، من جانب كلّ الأطراف، وكان أهمّها استخراج الخشب العالي القيمة في الجنوب، والخشب المستعمل للوقود والفحم في جبال النوبة. وقضى سارقو العاج على قطعان الفيلة ووحيد القرن في جنوب السودان، ولجأ المحاربون إلى اصطياد الحيوانات البريّة لتأمين المأكل. ولم يقتصر انهيار الإدارة البيئيّة على المناطق التي نشط فيها النزاع فحسب، بل انهارت أيضاً على الصعيد الوطنيّ، واستفاد الجنود والمدنيّون على السواء من فرصة التصرّف بالبيئة على هواهم من دون محاسبة أو مساءلة. كما حال النزاع دون جمع البيانات العلميّة، مما حدّ من إمكانية صنع القرارات العقلانية بشأن إدارة الموارد والحفاظ عليها. أخيراً، أدّى اقتصاد الحرب إلى نشوء أزمة تمويل، إذ إنّ ميزانيّة الحكومة لم تلحظ تخصيص أموال للإدارة البيئيّة المستدامة.
 
لبنان: ألغـام وقنابل عنقودية وتلوث نفطي
كان لبنان منذ منتصف سبعينات القرن الماضي مسرحاً لحرب أهليّة ونزاعات دوليّة، وهو يبقى حتى اليوم الجبهة الوحيدة الفعليّة في النزاع العربي الاسرائيلي. في شهر تموز (يوليو) 2006 اندلعت حرب بين لبنان وإسرئيل دامت 34 يوماً، وخلفت أضراراً كبيرة في بنيته التحتيّة المدنيّة إلى جانب أضرار بيئيّة هائلة. ومن أفظع مشاهد هذا النزاع انتشار ما قدَّر بين 10,000 و15,000 طنّ من النفط في مياه المتوسّط بفعل قصف محطّة الجيّة لتوليد الكهرباء. وهذا الانسكاب النفطي، الذي لوث 150 من أصل 220 كيلومتراً هي طول الخط الساحلي اللبناني، ووصل جزئياً إلى سورية، كانت له مفاعيل خطيرة على شواطئ لبنان الرمليّة والصخريّة.
ونظراً إلى النوعية الثقيلة للنفط المخزّن في مستوعبات المحطة، غاصت نسبة مهمّة منه في المنطقة المجاورة حيث ''خنقت الحيوان والنبات وأثّرت إلى حدّ كبير في قاع البحر''. وكشف برنامج الأمم المتّحدة للبيئة في تحليله لنوعيّة مياه البحر والرسوبيات والمؤشّرات البيولوجيّة كالمحار أنّ التلوّث بالهيدروكربون موجود بصورة عامّة ضمن المستويات المقبولة. من هنا يبدو أن الحياة البحريّة نجت إجمالاً من أسوأ آثار الكارثة. حيال هذا، ونظراً إلى خطر معاودة انتشار النفط، من المهمّ وضع نظام مسح لمراقبة تركيز الملوثات.
ومن منظار أشمل، يبقى التهديد الأكبر لنوعيّة المياه البحريّة اللبنانيّة متأتّياً من 53 مصبّاً للمياه المبتذلة التي تفرغ مياه المجارير غير المعالَجة في البحر (هذا يمكن أن يعزى جزئياً إلى النقص في الاستثمار بسبب النزاعات السابقة).
أمّا المفاعيل البيئيّة الأساسيّة للحرب فمرتبطة بالكمّيات الضخمة من النفايات المنتَجة. ويتمثّل الأثر الأخطر في الكمّيات الهائلة من الركام الناجم من تدمير وتضرر 30,000 وحدة سكنيّة إلى جانب البنى التحتيّة الأخرى من جسور ومرافق صناعية. إنّ الخطر الناجم من هذا الحطام الصلب هو ضئيل عموماً، وتبقى المعضلة الأساسيّة في معالجة النفايات والتخلّص منها، خصوصاً لأنّ مكبّات النفايات القائمة حالياً لم تعد تسعها. أمّا التحدّي الآخر فيتمثّل في التخلّص من النفايات الناجمة من الانسكاب النفطي، بما فيها التربة الملوّثة، ومعالجتها، خصوصاً لأنّ لبنان يفتقر إلى مرافق التخلّص والمعالجة. أمّا التلوّث المتأتّي من المواقع الصناعيّة المستهدفة فكان في العموم ضئيلاً ومحصوراً، لكنّ بعض هذه المواقع يحتاج إلى تنظيف. كما أنّ ضرراً واسعاً أصاب مرافق المياه وشبكات مياه المجارير، مما فاقم المشكلة التي كانت قائمة قبل اندلاع النزاع، وهي النقص الحاد في القدرة على معالجة المياه المبتذلة والتي كانت تخضع مؤخّراً لعمليّة تطوير وتحديث شاملة.
وعلى رغم صدور تقارير صحافية غير مثبتة تفيد عن استعمال اليورانيوم المستنفَد في النزاع، أجرى برنامج الأمم المتّحدة للبيئة بالتعاون مع الحكومة اللبنانيّة دراسة ميدانيّة شاملة استخدمت فيها أحدث المعدّات، وأظهرت عدم وجود أي إثبات على استعمال اليورانيوم.
ومن الآثار الكبرى غير المباشرة قرابة مليون قنبلة عنقوديّة غير منفجرة خلفتها الحرب الأخيرة في جنوب لبنان. وكانت الأراضي الزراعيّة الأكثر تضرّراً لكونها شكّلت 62 في المئة من مجمل الأراضي الملوّثة بالقنابل العنقوديّة. ولم يؤدّ ذلك إلى خسائر فادحة في محاصيل 2006 فحسب، بل إنّ مساحات واسعة من جنوب لبنان باتت محظّرة الدخول على السكّان المحلّيّين. وهنا أيضاً من شأن ندرة الأراضي الصالحة للزراعة بفعل انتشار القنابل العنقوديّة فيها أن تؤسّس لدورة من الفقر والتدهور البيئي. أخيراً، سبّب النزاع اندلاع الحرائق التي أتت على أنواع قيّمة من الأشجار في جنوب لبنان، ممّا أعاق برنامج إعادة التحريج التي كانت الحكومة في طور تنفيذه.
 
ما العمل؟
إنّ أكبر تحدّ مستقبليّ يواجهه العالم العربي اليوم يتمثّل في فخّ النزاعات الأساسيّة التي يشهدها في العراق والأراضي الفلسطينيّة والصومال والسودان، بالإضافة إلى ''الأوضاع المتأرجحة'' في الجزائر ولبنان. ذلك أنّ المآزق الناتجة منها لن تنحصر داخل حدود تلك البلدان، بل ستحدّد وتبلور الى حد كبير مستقبل المنطقة بأسرها. ويشكّل الوضع الراهن في هذه المجتمعات التي مزّقتها الحروب، والتي تعيش في ظروف بائسة، نذيراً بالمشاكل المستقبليّة التي سيواجهها العالم العربيّ بأسره في الإطار نفسه، فإنّ تبعات النزاع البيئيّة بدءاً من وقعها على اللاجئين وصولاً إلى التلويث العابر للحدود، كما في حروب الخليج، لن تنفكّ تتفاقم وتزداد سوءاً.
فما الذي ينبغي على العالم العربيّ القيام به لحماية بيئته من أتون الحرب؟ إمكانيّات التدخّل اثنتان: معالجة النتائج البيئية المتصلة بالنزاع والاستجابة للآثار البيئيّة التي يخلّفها هذا النزاع. ففي غالب الأحيان، وفي ظلّ ظروف ملائمة، توفّر الأنظمة البيئيّة والموارد الطبيعيّة المشتركة بذوراً للتعاون أكثر ممّا توجِد أسباباً للنزاع. والمثال الأبرز على ذلك المفاوضات حول توزيع مياه اليرموك التي جرت بين إسرائيل والأردن في الخمسينات، بالإضافة إلى كون ''المياه والطاقة والبيئة'' أحد المسارات الرئيسة في المفاوضات التي انتهت إلى توقيع اتفاقية السلام بينهما عام 1994. ومن المجالات القليلة التي لا تزال الاتصالات المنتظمة قائمة بشأنها بينالخبراء الإسرائيليّين والفلسطينيّين موضوع المياه الذي أدرج على أنّه ''موضوع أساسي'' مع عودة المفاوضات في بداية 2008. وهذا هو البرهان على الدور المحتمل للبيئة كمفهوم حياديّ يوفّر منصّة للحوار وبناء الثقة في إحدى الأزمات الأكثر تعقيداً التي تواجه العالم اليوم.
بغية معالجة ''لعنة الموارد'' التي تميّز بلداناً مثل العراق والسودان، لا بدّ من تطوير سياسة جديدة مبتكرة ووضع أطر قانونيّة وإرساء آليّات عمليّة لإشرافٍ أكثر صرامة ومساءلة. أمّا الانضمام إلى المعايير الدوليّـة كتلك التي حدّدتها مبادرة الشفافية في صناعات استخراج الموارد الطبيعيّة (ITIE) وترجمتها في القوانين الوطنية، فهو نقطة انطلاق جيّدة للبلدان العربية المنتجة للنفط. ذلك أنّ مبادرة الشفافيّة وغيرها من المبادرات المماثلة كعمليّة كمبرلي قد برهنت أنّ الخطوات، حتى الأكثر تواضعاً منها، يمكن أن تقطع شوطاً كبيراً على طريق تحسين إدارة الموارد الطبيعيّة.
بموازاة ذلك، لا يجوز أن ينظَر إلى ندرة الموارد البيئيّة وتدهور البيئة والتغيير على المدى الطويل على أنها تحمل رسالة يأس مفادها أنّه لا مفرّ من تدهور البيئة. فالباب مشرّع دائماً أمام مختلف الاحتمالات، بما في ذلك الحدّ من المخاطر، والأستعداد، والإنذار المبكّر. وبالفعل، يمكن أن تكون ندرة الموارد البيئيّة محفّزاً للإبداع التكنولوجي والإصلاح الإداريّ، إذا ما اعتمِدت السياسات والاستراتيجيّات المناسبة، كما هي الحال في إسرائيل واليابان وسويسرا. فصحيح أنه في أماكن مثل دارفور تبقى الموارد نادرة نظراً للظروف الاجتماعية والاقتصاديّة الراهنة، غير أنّ ذلك لا يعود بالضرورة إلى النقص الحادّ في الأراضي الزراعيّة والمياه، بل إلى السياسات غير الناجعة وسوء الإدارة وسياسات التنمية التي همّشت المنطقة. وعلى رغم أنّ دارفور مستجمع أعلى للأمطار، أساسيّ بالنسبة إلى حوضي النيل وبحيرة تشاد، فهناك فراغ كبير على صعيد المعلومات وافتقار إلى الاستثمارات التي من شأنها الإفادة من موارد المياه الغنيّة نسبياً في هذه المنطقة. ومن الواضح أنّ سياسات التنمية المبنيّة على معلومات صائبة وعلى الاستثمار في بنى تحتيّة أساسيّة وصيانتها، وعلى الأفكار المبدعة، أن تحقّق نتائج هامّة في تخفيض احتمال نشوء نزاعات في مناطق مثل دارفور.
وربما يجدر بالعالم العربي، من خلال مجلس الوزراء العرب المسؤولين عن شؤون البيئة، ومن خلال المنظّمات البيئيّة الإقليميّة، التفكير في اعتماد مزيج من التدابير العمليّة التالية لدى مواجهة الأثر البيئيّ للنزاع:
أولاً، تمويل النشاطات البيئيّة
إنّ حصّة البيئة في الميزانيّات الوطنيّة في جميع الدول العربيّة من دون استثناء أقلّ بكثير من واحد في المئة. في المقابل، تشهد البلدان العربيّة أعلى معدّلات إنفاق عسكريّة في العالم، سواء من حيث الحصّة من إجمالي الدخل القومي أو من حيث نصيب الفرد الواحد. ويتراوح معدّل الإنفاق على الدفاع بين 7 و8 في المئة من إجمالي الدخل القومي، وهو أعلى بكثير من المعدّل العالميّ الذي يتراوح بين 2 و2,5 في المئة. ولا بدّ بالتالي من تصحيح هذا الخلل في إنفاق الميزانيّة.
وتظهر الإحصاءات المذكورة أنّ ارتفاع الإنفاق العسكري في الدول العربيّة لا يؤدّي إلى تحويل التمويل عن البيئة فحسب، بل يعرّض للخطر أيضاً احتمالات الإدارة البيئيّة الفعّالة وحماية البيئة. فعلى العالم العربي أن يزيد من الميزانيّة المخصّصة للبيئة زيادة ملحوظة لتبلغ حداً أدنى يراوح بين 2 و3 في المئة. وفي هذا السياق ينبغي أن ينظر إلى الإدارة البيئيّة وحماية البيئة كأداة لتجنّب النزاعات وإرساء السلام. ومن أجل الحدّ من خطر الانزلاق مجدداً إلى حالة الصراع، يُـقترَح إنشاء صندوق عربيّ لدعم البلدان المعنية في المنطقة ومساعدتها على مواجهة الأسباب البيئيّة للنزاع، وكذلك الآثار المباشرة للحرب (مثل تسرّب النفط والتلوّث الكيميائي).
ثانياً، تحسين الإدارة البيئيّة
غالباً ما تشهد البلدان الخارجة من النزاع بعض أسرع الاقتصادات نمواً. ووفقاً لصندوق النقد الدوليّ، شهد السودان معدّل نموّ حقيقياً في إجمالي ناتجه القومي عام 2007 بلغ 12 في المئة، مما جعله أسرع الاقتصادات نمواً في العالم العربي. أمّا العراق، فقدّر صندوق النقد الدوليّ أنّ اقتصاده سينمو بمعدّل 7 في المئة أو حتى أكثر خلال 2008 ـ 2009. إنّ النموّ الاقتصاديّ السريع، الذي يعتمد في هاتين الحالتين اعتماداً شبه كامل على الثروة النفطيّة، يفرض ضغوطاً كبيرة على البيئة ما لم يتمّ اعتماد بعض الضوابط الوقائيّة الملائمة. فالبلدان الخارجة من النزاع تنزع غالباً إلى التغاضي عن المتطلبات والمعايير القانونية البيئيّة نظراً إلى حاجتها الملحّة إلى إعادة الإعمار. لكنّ ذلك قد يؤدّي إلى تقويض التنمية المستدامة والسلام الهشّ القائم. ومن شأن الإدارة البيئيّة الرشيدة المبنيّة على المنهجيات الموثوقة التي سبق اختبارها، كتقييم الأثر البيئيّ والتقييم البيئيّ الاستراتيجيّ، أن تؤدّي دوراً هامّاً في المساعدة على ضمان التوازن الاقتصاديّ والبيئيّ لعملية إعادة الإعمار والتنمية. كما أن المقاربة الاستشارية المتعددة الأطراف لتقييم الأثر البيئي تحمل عنصراً من عناصر حلّ النزاعات، إذ تسعى إلى تعزيز الشفافيّة والمشاركة العامّة والتقاسم العادل للأرباح.
ثالثاً، تعزيز القدرات والتعاون في مجالي البيئة والنزاعات
من المقترح إنشاء لجنة خبراء عربيّة متعددة الاختصاصات معنيّة بالبيئة والنزاعات، تحت رعاية جامعة الدول العربيّة، لدراسة أوجه الصلة بين النزاعات والبيئة وتحسين القدرة على الإنذار المبكر والتقييم. وعلى الحكومات العربيّة، في إطار هذا المسعى، أن تفيد من الخبرة الدوليّة المتنامية في هذا المجال، وأن تتعاون بفعالية مع المنظّمات الدوليّة، ولا سيّما الأمم المتحدة، بغية الإفادة من مواردها العلميّة والتكنولوجيّة والماليّة في تحليل الآثار البيئيّة للحرب وتخفيفها.
ويستحسَن بحث الخطوات المذكورة واعتمادها قبل اندلاع حرب جديدة تسبّب أضراراً بيئية إضافية.
 
كادر
تغيّر المناخ والنزاعات
يؤدّي تغيّر المناخ إلى تفاقم تدهور البيئة، ويلعب دور المحرّك الذي يسرّع دورة الندرة ـ التدهور ـ النزاع. ففي دارفور مثلاً تمّ تسجيل انخفاض كبير وطويل الأمد في معدّل التساقطات، يتراوح بين 16 و34% خلال 80 عاماً، مما ألقى بثقله على نوعيّة المراعي. وبحسب أنماط توقّعات التغيّرات المناخيّة، فإنّ المناطق المتاخمة للصحراء مثل منطقة كردفان الشماليّة ستشهد ارتفاعاً في الحرارة يتراوح بين 0,5 و1,5 درجة مئوية بحلول 2030 و2060 على التوالي، مع انخفاض في كميّة المطر بمعدّل 5%. ويتوّقّع أن يكون لذلك وقع كارثي على الزراعة، مع انخفاض في المحاصيل يقدّر بـ 70% . وبسبب انخفاض كميّة المطر، يتوقّع كذلك أن يستمرّ تمدّد الصحراء التي اتّسعت رقعتها جنوباً بحوالى 50 إلى 200 كلم منذ 1930. من هنا فإنّ تغيّر المناخ يشكّل من دون أدنى شكّ عنصر ضغط كبيراً قادراً على توليد أزمة بيئيّة هائلة في منطقة السهل وعلى زيادة حدّة ديناميّة النزاع وتوسيع رقعته وتسريع وتيرته.
 
محرقة غزة
 
بعد حصار طويل شل مقومات الحياة اليومية من مياه وغذاء ودواء وكهرباء ووقود، وجعل قطاع غزة أكبر معسكر اعتقال عرفه التاريخ، بدأت حرب إبادة استهدفت المقاتلين والمدنيين على حد سواء واستخدمت فيها أسلحة محرمة دولياً
 
وحيد مفضل
لإسرائيل سجل حالك السواد بحق مقدرات البيئة العربية: في فلسطين من خلال تعمدها تجريف الأراضي الزراعية وتدمير آبار المياه وشبكات الري ومحطات معالجة الصرف. وفي لبنان أثناء احتلالها لجنوبه، بتعمدها نقل كميات كبيرة من التربة الطينية الخصبة، خصوصاً عند الليطاني، بغرض استغلالها في استصلاح أراضيها الصحراوية.
وامتد هذا السجل الحالك إلى المواطن العربي، سواء في الأراضي المحتلة أو في دول الجوار. وخير شاهد على ذلك المجازر والجرائم الإنسانية البشعة التي ارتكبتها سابقاً في دير ياسين وصبرا وشاتيلا وقانا، واعتداءاتها السافرة والمتكررة على المدنيين العزل في لبنان أثناء اجتياح عام 1982، ومجدداً في حرب 2006، حين أمطرت لبنان بآلاف الأطنان من القنابل العنقودية وقذائف أخرى محرم استخدامها دولياً. لكن المحرقة التي ارتكبت مؤخراً بحق قطاع غزة وأهله تمثل فصلاً جديداً ومختلفاً من جرائم هذه الدولة العنصرية، انتهجت فيها سياسة الحرق والسحق والترويع والتدمير بمختلف الأسلحة الفتاكة.
والواقع أن حجم انتهاكات آلة الحرب الإسرائيلية لأهل غزة والمقدرات البيئية فيها بلغت من البشاعة والتوحش مبلغاً لا يمكن معه اعتبار ما جرى سوى محرقة (هولوكوست) جديدة أو جريمة حرب ضد الإنسانية وضد البيئة. ولعل الإدانات المتكررة من منظمة العفو الدولية ومنظمة ''هيومن رايتس ووتش'' ومجلس حقوق الإنسان العالمي والأونروا والمنظمات الأخرى المعنية بحقوق الإنسان، تؤكد على فظاعة هذا الاعتداء الصهيوني الجديد ووحشيته.
 
جرائم حرب غير مسبوقة
محرقة غزة لم تندلع فجأة، فقد بدأ سعيرها في الاشتعال، وإن بنار هادئة، قبل ذلك بسبعة عشر شهراً، حينما أخضع قطاع غزة لحصار ممتد ومحكم شمل جميع مقومات الحياة اليومية، من إمدادات المياه والغذاء والكهرباء الى الدواء ووقود السيارات، وبدرجة يمكن القول معها إن القطاع تحول طوال هذه الفترة إلى أكبر معسكر اعتقال عرفه التاريخ.
نتائج ذلك متوقعة ومعروفة، بداية من انتشار البطالة وزيادة مستويات الفقر، وصولاً الى تراجع مستوى الصحة العامة وتفشي الأمراض الناتجة عن سوء التغذية وتلوث المياه ونقص الرعاية الصحية. وبحسب مقرر الأمم المتحدة للحق في الغذاء، فإن معدلات سوء التغذية بين سكان القطاع تدنت في ظل الحصار حتى أصبحت تضاهي المعدلات السائدة في أفقر المجتمعات في جنوب القارة الأفريقية، مشيراً إلى أن قوت أكثر من نصف العائلات الفلسطينية في القطاع أصبح يقتصر على وجبة واحدة في اليوم. وكان من البديهي أيضاً أن يؤدي الحصار المفروض إلى انهيار قطاع التجارة الداخلية والخارجية نتيجة منع التبادل التجاري من غزة واليها.
نحن في غزة أمام جريمة حقيقية ضد الإنسانية، ارتكبت فيها مجموعة من جرائم الحرب، وعمدت فيها قوات الاحتلال إلى تحويل القطاع مسرحاً كبيراً لتجريب كل الأسلحة الفتاكة والمحرمة التي بحوزتها، وإلى تدمير كل المقدرات الإنسانية والبيئية المتاحة للأهالي، بمقدار ربما لم يتعرض له أحد من قبل بهذا الشكل السافر والممنهج. وللأرقام هنا دلالات، فقد تم مثلاً إسقاط أكثر من 100 طن من المتفجرات والقنابل الحارقة جـواً على أكثر من 40 هدفاً في القطاع، خلال أربع دقائق فقط من بدء العدوان، وصلت بعد 13 يوماً إلى أكثر من 1000 هدف.
وكان جلياً انتهاك قوات الاحتلال وقادته للأعراف والقوانين الدولية والإنسانية، من خلال استهداف المدنيين الأبرياء والسكان العزل، ومنع الطواقم الطبية والمسعفين من القيام بعملهم، مع تعمد قنص عدد كبير منهم. هذا فضلاً عن إعاقة وصول الإمدادات الطبية والغذائية، ما دفع مجلس حقوق الإنسان العالمي لإدانة تلك الأفعال وتشكيل لجنة دولية لتقصي الحقائق في القطاع المنكوب.
من جرائم الحرب التي أقدم العدو الصهيوني على ارتكابها أيضاً التدمير المنهجي للمساجد والمستشفيات ومدارس الأونروا والجامعات والمرافق الحكومية والمدنية الأخرى. والأبشع من هذا تعمد هدم وسحق المنازل الآمنة على رؤوس من فيها، ما أدى إلى إبادة أسر بكاملها. وزاد عدد الضحايا على 1300 شهيد و5500 جريح خلال فترة القصف التي امتدت لأكثر من ثلاثة أسابيع بلا انقطاع.
وأفضى القصف والتدمير المتواصلان الى نشر الدمار في كل مكان، وإلى توقف مرافق الحياة كافة في القطاع. فأعلنت مصلحة المياه وبلدية غزة عجزها شبه التام عن توفير المياه وخدمات الصرف الصحي للسكان، وغرقت مناطق كثيرة في برك من مياه المجارير، فضلاً عن انقطاع الكهرباء والنقص الشديد في إمدادات الغذاء بدرجة جعلت شبح المجاعة يخيم على عدد كبير من أهالي القطاع.
أما الخسائر المادية فتم تقديرها بنحو بليوني دولار، يضاف إليها بليون دولار كلفة الحصار المفروض، فضلاً عن خسائر توقف حركة الصناعة والتجارة والقطاعات الأخرى. فقد دمّر نحو 4,100 مسكن بشكل كامل، إضافة الى 17 ألف مسكن بشكل جزئي، و1500 مصنع أو ورشة، و20 مسجداً، ومقرات 10 منظمات خيرية. كما تم تدمير عدد من المباني الحكومية ومقرات الشرطة والمدارس والمنشآت العامة قدرت بنحو 500 مبنى. واستهدفت مرافئ الصيادين ودمّرت مراكبهم ومعداتهم. وتم إتلاف نحو ألف منشأة زراعية، من دفيئات ومزارع حيوانية.
 
أسلحة فتّاكة ومحرمة دولياً
كعادتها، لم تأبه اسرائيل لأي اعتبارات أو نداءات إنسانية، كما لم تحترم الشرعية الدولية وقرار مجلس الأمن الداعي الى وقف الحرب. فكان أن استمرت في عدوانها الغاشم بلا هوادة، مستخدمة أنواعاً عديدة من الأسلحة المحرم استخدامها دولياً في المناطق المدنية أو ضد المدنيين العزل. ومن هذه الأسلحة قذائف الفوسفور الأبيض وقنابل الدايم وغير ذلك مما خفي.
والفوسفور الأبيض، الذي استعملته اسرائيل سابقاً في حرب لبنان، مادة شمعية شفافة مائلة للاصفرار، تصنع أساساً من الفوسفات وتتفاعل مع الأوكسيجين بسرعة كبيرة، منتجة غازات حارقة ذات وهج عال وسحب كثيفة من الدخان الأبيض لها رائحة تشبه رائحة الثوم. ويمكن تفجير الفوسفور الأبيض في الجو أو على الأرض، لذا تستخدم قنابل الفوسفور عسكرياً لاحداث حرائق بغرض إضاءة مسرح العمليات أو توليد دخان كثيف من أجل التعتيم على تحرك القوات. لكن الغاز المنبعث من احتراق الفوسفور الأبيض له أثر مهلك، وقد يفتك بكل من يلامسه، نتيجة الحروق الشديدة التي يسببها والتي قد تصل إلى حد اختراق العظام. من هنا فقد منع البروتوكول الثالث لاتفاقية الأمم المتحدة المتعلقة بالأسلحة التقليدية استخدام الفوسفور كسلاح هجومي، كما منعت اتفاقية جنيف لعام 1980 استخدامه ضد المدنيين أو حتى ضد الأعداء في المناطق التي يقطن بها مدنيون، معتبرة مخالفة ذلك جريمة حرب.
أما متفجرات الدايم فهي نوع جديد من القنابل الصغيرة المركزة التي تهدف إلى إحداث قوة تدميرية كبيرة وفتاكة في أكبر حيز ممكن. ويطلق عليها اسم ''متفجر المعدن الثقيل الخامل Dense Inert Metal Explosive (DIME).وعند حدوث عملية التفجير، تنشطر قنبلة الدايم إلى شظايا وأجزاء صغيرة جداً، لها قدرة هائلة على الفتك بكل من يتعرض لها، خصوصاً إذا كان قريباً في حدود مترين أو أربعة أمتار من موقع الانفجار. كما يمكنها تحقيق إصابات بالغة وان كانت أقل خطورة على مسافات أبعد، بسبب قدرة هذه الشظايا على اختراق أنسجة الجسم والانفجار في داخلها. وغالباً ما تظهر آثار حروق عميقة تصل إلى العظم، لا سيما عند مواقع الأطراف المبتورة مباشرة، بسبب التعرض لهذه الشظايا، فضلا عن تهتك الأنسجة والأوردة والشرايين مما يتسبب في حدوث نزف دموي كبير في العضو المصاب. أما الأسوأ من هذا فهو احتمال الإصابة لاحقاً بسرطان الأنسجة، لأن التنغستين والعناصر المعدنية الثقيلة الداخلة في تركيب هذه المتفجرات هي من المواد المسرطنة.
وتجري الوكالة الدولية للطاقة الذرية تحقيقاً حول احتمال استخدام ذخائر اليورانيوم المستنفد في محرقة غزة. وهذه من الأسلحة الفتاكة المحرم استخدامها خصوصاً حيث يتواجد مدنيون، نظراً لما تمثله من خطر كبير على الصحة والبيئة، وما يتخلف عنها من غبار إشعاعي مميت ومسرطن يمكن أن يصيب الرئتين والأعضاء الحيوية الأخرى.
 
التكاتف العربي والنهضة العلمية
لا نعرف إلى أي مدى يمكن أن تستمر عذابات شعب غزة من الانتهاكات والفظائع. كما لا نعرف مدى ما تخطط له الدولة العبرية في النيل من مقدرات الشعب الفلسطيني والشعوب العربية الأخرى. لكن ما هو ثابت أنه لا توجد حدود لأطماعها وشرورها.
الثابت أيضاً أننا يجب أن نتعلم من دروس الماضي، ونعمل على ردع هذه الآلة الغاشمة. وهذا بالطبع لن يتأتى إلا بتكاتف الشعوب العربية، وبالعمل على تقدمها علمياً وتكنولوجياً بين الأمم. فهذا أفضل سبيل لكي تقوم لنا قائمة ونحقق نهضة شاملة تكفي لرد كل معتد وردعه.
 
 
 
 

اضف تعليق
*الاسم الكامل  
*التعليق  
CAPTCHA IMAGE
*أدخل الرمز  
   
 
بندر الأخضر صديق البيئة
(المجموعة الكاملة)
البيئة والتنمية
 
اسأل خبيرا
بوغوص غوكاسيان
تحويل النفايات العضوية إلى سماد - كومبوست
كيف تكون صديقا للبيئة
مقاطع مصورة
 
احدث المنشورات
البيئة العربية 9: التنمية المستدامة - تقرير أفد 2016
 
ان جميع مقالات ونصوص "البيئة والتنمية" تخضع لرخصة الحقوق الفكرية الخاصة بـ "المنشورات التقنية". يتوجب نسب المقال الى "البيئة والتنمية" . يحظر استخدام النصوص لأية غايات تجارية . يُحظر القيام بأي تعديل أو تحوير أو تغيير في النص الأصلي. لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر يرجى الاتصال بادارة المجلة
©. All rights reserved, Al-Bia Wal-Tanmia and Technical Publications. Proper reference should appear with any contents used or quoted. No parts of the contents may be reproduced in any form by any electronic or mechanical means without permission. Use for commercial purposes should be licensed.