تستهدف خطة التنمية المستدامة ضمن الإطار الزمني المحدد الذي ينتهي عام 2030 معالجة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، وهي تتطلب استثمارات كبيرة للقيام بذلك. وقد أبرزت خطة عمل أديس أبابا، الصادرة عن المؤتمر الدولي الثالث لتمويل التنمية، بصورة جلية أن تنفيذ الخطة الإنمائية يجب أن يستند إلى أطر التعاون الدولي والدعم الاقتصادي والتقني للدول الفقيرة.
وعلى الرغم من تحمل الدول النامية لمسؤولياتها الأساسية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، بيد أنها لا تقوى على تحقيق تلك الأهداف بمفردها. لذا، أصبح لزاماً على الدول المانحة ومؤسسات التمويل الإنمائي القيام بدور هام، لا سيما على صعيد دعم الشراكة العالمية من أجل التنمية. ولكن يتعيّن على الدول النامية تحديد أهدافها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية واتباع اساليب الرصد المنهجية لقياس التقدم المحرز، إذ سيمكِّنهم القيام بذلك من تحسين مواردهم المحلية وكذلك موارد القطاعين العام والخاص للمجتمع الدولي.
ولعلنا نرى جميعاً أن احتياجات التنمية تقدر حالياً بتريليونات الدولارات سنوياً لا البليونات فحسب، غير أنه وفقاً لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، فإن الاستثمارات الحالية المخصصة للقطاعين العام والخاص من أجل تحقيق أهداف التنمية المستدامة في الدول النامية قد بلغ مجموعها نحو 1.4 تريليون دولار سنوياً، بينما يقدر إجمالي الاحتياجات الاستثمارية السنوية اللازمة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030 بنحو 3.9 تريليون دولار. وهذا يترك لدينا فجوة سنوية تبلغ 2.5 تريليون دولار. ومن ثمَّ، فنحن نحث على تعبئة جميع الموارد المتاحة لمواجهة تحديات جدول أعمال التنمية الطموح، نظراً لأن مواصلة "العمل كالمعتاد" لم يعد مناسباً، فضلاً عن ضرورة حشد الشراكات وتبني سياسات متماسكة بين جميع أصحاب المصلحة.
ونظراً لعدم مقدرة القطاع العام بمفرده على سد هذه الفجوة، لا سيما في الدول المنخفضة الدخل، ينبغي علينا تعبئة الاستثمار في القطاع الخاص، بما في ذلك الاستثمار الأجنبي المباشر، من أجل تمويل المشروعات اللازمة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. إذ أن مبدأ "الإدماج المالي" يمثل قناة إضافية فاعلة لتعزيز الوصول إلى التمويل للأفراد ذوي الدخل المنخفض والشركات الصغيرة في الدول النامية.
دور "أوفيد" في تمويل أهداف التنمية المستدامة
لقد أدركنا في أوفيد مدى أهمية الإدماج المالي في إتاحة فرص متساوية للجميع والحد من الفقر ودفع عجلة النمو المستدام. ومع ذلك، لا نزال نرى اليوم أن هناك نحو بليوني شخص بالغ في جميع أنحاء العالم غير قادرين على الوصول إلى الخدمات المالية الرسمية. لذا، نسعى جاهدين إلى توفير الخدمات المالية الشاملة من خلال نوافذ القطاع العام والخاص وتمويل التجارة.
ويأتي هذا أيضاً بالإضافة إلى مساعداتنا لحكومات الدول الشريكة لإطلاق ودعم برامجها الخاصة بالتمويل المتناهي الصغر، وكذلك دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم في كل من القطاع الرسمي وغير الرسمي. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، عَمِلْنا مع وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين في الشرق الأدنى لتوسيع الخدمات المالية اللازمة لدعم المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر من أجل مساعدة الفلسطينين المحتاجين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ومن خلال مرفق إقراض القطاع الخاص، نقوم بتوجيه الموارد من خلال البنوك التجارية وبنوك التمويل المتناهي الصغر في جميع أنحاء العالم لتعزيز المؤسسات المالية المحلية ومن ثمَّ زيادة قدرتها على الإقراض والتوسع. وعلى سبيل المثال، فإن برنامج "التسهيبات الإئتمانية للتمويل المتنامي الصغر" الذي يساهم فيه أوفيد وغيره من مؤسسات التمويل الإنمائي يعتبر وسيلة فعالة وناجعة في توفير التمويلات اللازمة لاستقرار سوق التمويل الأصغر.
ورغم جهود أوفيد لتعزيز التمويل الأصغر، يظل إقراض الحكومات الركيزة الأساسية لعمليات أوفيد، إذ تمثل نافذة القطاع العام أكثر من ثلثي تعهدات أوفيد التراكمية منذ تأسيسه، بينما تأتي نافذة القطاع الخاص كوسيلة أخرى مكملة لتقديم المساعدات للبلدان الشريكة، من خلال دعم أنشطة مستثمريها من القطاع الخاص ، كما سأوضح أدناه.
بلغ إجمالي تعهدات أوفيد منذ تأسيسه حتى نهاية العام الماضي ما يربو على 21 بليون دولار لدعم أكثر من 3,600 عملية إنمائية في 134 بلداً في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي والشرق الأوسط وأوروبا، خُصّص نحو 20 في المئة منها للعالم العربي، وهو ما يزيد عن أربعة بلايين دولار. وقُدٍّم 30 في المئة من هذه التعهدات، وهو ما يعادل 1.26 بليون، إلى 11 دولة عربية من خلال نافذة أوفيد للقطاع الخاص منذ إنشائها عام 1998. وسأبرز بعض هذه العمليات أدناه:
ففي السودان، ساهم أوفيد بمبلغ 3 ملايين دولار لدعم شركة استثمار واستجارة عربية أُنشئت حديثاً برأس مال قيمته 30 مليون. وتستهدف الأنشطة الرئيسية للشركة توفير خدمات الاستجارة وغيرها من التسهيلات التمويلية القصيرة الأجل للعملاء في السودان. وأصبحت منذ ذلك الحين لاعباً قوياً يُعْتَمد عليه في القطاع المالي في السودان، مما يساعد على توفير الخدمات المالية الشاملة وإمكانية الحصول عليها.
وفي جمهورية جيبوتي، قدّم أوفيد تمويلات قيمتها 15 مليون دولار (في إطار التمويل المتوافق مع الشريعة الإسلامية) كجزء من حزمة ديون بقيمة 400 مليون دولار لبناء ميناء دورالة للحاويات. وكان هذا هو أول تمويل على الإطلاق في مجال شراكة القطاعين العام والخاص في جيبوتي. وقد ساعدت محطة الحاويات الجديدة على تحسين كفاءة الميناء وتخفيف القيود على القدرات الحيوية، وفي الوقت ذاته توليد العمالة المحلية والإيرادات.
وفي موريتانيا، قدّم أوفيد تمويلات واستثمارات أسهم يبلغ مجموعها 13 مليون دولار في شركة استجارة موريتانية تعرف الآن باسم "بنك بوبلير الموريتاني". وبهذا يكون أوفيد قد ساهم في تأسيس أول شركة استجارة في موريتانيا بنجاح، إذ تلعب دوراً رئيسياً في تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم.
وتعد هذه الأمثلة جزءاً صغيراً من عملياتنا في دعم القطاع الخاص في العالم العربي، لا سيما الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم.
الطاقة: مفتاح لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة في العالم العربي
ندرك جميعاً إن الحصول على خدمات الطاقة الحديثة شرط حيوي مسبق لتحقيق التنمية المستدامة، لا سيما التصنيع في البلدان النامية. وعلى أرض الواقع، فإن وصول الجميع إلى خدمات الطاقة الحديثة ضرورة للتحول: إضاءة المدارس والعيادات الصحية، وتشغيل مضخات المياه والصرف الصحي، ما يخلق المزيد من الفرص المدرة للدخل.
وعلى الرغم من التطورات الإيجابية في مجال الوصول إلى خدمات الطاقة الكهربائية منذ تسعينيات القرن الماضي، فلا تزال هناك فجوات كبيرة في مجال الحصول على الطاقة في المنطقة العربية. وبشكل عام، فإن الوصول إلى خدمات الطاقة الكهربائية قد أصبح متاحاً للجميع في المدن في جميع أنحاء المنطقة العربية، غير أن الوضع يختلف في المناطق الريفية، حيث يُقدّر عدد السكان الذين لم يحصوا على خدمات الطاقة الكهربائية حتى عام 2014 بنحو 36 مليون عربي، لا سيما في الدول العربية الأقل نمواً، فضلاً عن أعداد صغيرة من الناس ممن يعانون من عجز الخدمات الكهربائية في شمال أفريقيا والمشرق. ومن ناحية أخرى، فإن انقطاع الخدمات الكهربائية المتعمد أو غير المتعمد يشكل تحدياً لمستخدمي الكهرباء، بغض النظر عن الفجوة بين الريف والحضر.
ويعتبر أوفيد منذ وقت مبكر من رواد مكافحة الفقر في مجال الطاقة في البلدان النامية. ونحتفل هذا العام بالذكرى السنوية العاشرة لمبادرة "الطاقة من أجل الفقراء" التي تُموَّل من خلال مبلغ متجدد قدره بليون دولار تعهده مجلس وزرائنا في حزيران (يونيو) 2012. ويأتي هذا التعهد استجابة لتفويض رؤساء دولنا الأعضاء في عام 2007. وتستند أعمالنا إلى استراتيجية ذات ثلاثة أركان، هي الدعوة من أجل حشد التأييد العالمي في هذا المضمار، واتخاذ الطاقة كمحور لأنشطة أوفيد على أرض الواقع، وبناء التحالفات مع جميع الكيانات من أصحاب المصلحة.
لقد ناصر أوفيد بقوه خلال مشاركته في المنتديات الدولية ضرورة وضع مكافحة فقر الطاقة في جدول أعمال التنمية لما بعد 2015، وكان من بين أولئك الذين عملوا على وضع الطاقة كهدف سابع لأهداف التنمية المستدامة في جدول أعمال خطة التنمية لعام 2030.
وعلى مستوى العمليات خلال العقد الماضي، فقد خصَّص أوفيد أكثر من 3.5 بليون دولار لدعم عمليات الطاقة، وهو ما يمثل نحو 27 في المئة من القيمة الإجمالية لتعهداتنا خلال هذه الفترة. وقد اِستُخْدمت هذه المبالغ لدعم أكثر من 240 عملية في جميع أنحاء العالم، بكلفة إجمالية تنوف على 35 بليون دولار، واستحوذت الدول العربية على نحو 45 في المئة من إجمالي مساهمة أوفيد لدعم قطاع الطاقة خلال هذه الفترة، وهو ما يزيد عن 1.5 بليون دولار، لتمويل 14 مشروعاً للطاقة التقليدية، بالإضافة إلى 15 مشروعاً للطاقة المتجددة في عدد من الدول، بما في ذلك مصر والسودان والأردن واليمن وتونس والمغرب وفلسطين وغيرها. وإدراكاً منا لمرحلة التحول في قطاع الطاقة، فإن عملياتنا تأتي محايدة من الناحية التكنولوجية.
ففي الأردن، على سبيل المثال، قدم أوفيد قرضاً قيمته 20 مليون دولار أمريكي لتشييد مزرعة رياح الطفيلة لتوليد الطاقة بقدرة 117 ميغاواط عام 2013. وكان هذا المشروع هو أول مشروع للطاقة المتجددة في الأردن، وأول مشروع خاص لطاقة الرياح ينتهي تمويله في منطقة الشرق الأوسط ومنطقة شمال أفريقيا باستثناء المغرب. ومن المتوقع أن تولد مزرعة رياح الطفيلة لدى استكمالها 6.5 في المئة من الطاقة المتجددة المستهدفة في الأردن، والتي ستبلغ 1800 ميغاواط بحلول عام 2020، إذ ستولد ما يقدر بنحو 400 جيجاواط/ساعة سنوياً.
وفي المغرب، قدّم أوفيد قرضاً قيمته 39 مليون دولار لتوسيع مرافق محطة القنيطرة لتوليد الكهرباء للتغلب على عجز الطاقة وتلبية الطلب المتزايد على خدمات الطاقة الكهربائية فضلاً عن توصيل شبكات الطاقة الكهربائية الحديثة للفقراء. ويأتي هذا بالإضافة إلى تقديم قرض قيمته 60 مليون دولار لدعم برنامج الحكومة لكهربة الريف، الذي يستهدف توليد الكهرباء من خلال بناء مزارع الرياح ومحطتين للطاقة الكهرومائية، فضلاً عن خطوط النقل والتوزيع.
إن استراتيجيتنا في أوفيد تركز على قضية مكافحة الفقر في مجال الطاقة باعتبارها تحدياً صعباً يجب التغلب عليه من خلال الشراكات الاستراتيجية.
ومن الأمثلة على هذه الشراكة يأتي منبر صناعة البترول والغاز للوصول إلى الطاقة، الذي يمثل التعاون بين أوفيد ومجلس البترول العالمي وشركة توتال وشل الدولية وشركة شلومبرجير العالمية لخدمات البترول، وشركة أرامكو السعودية، والشراكة العالمية لغاز البترول المسال، والاتحاد الدولي للغاز، وغيرها من الشركاء الاستراتيجيي. ويهدف منبر صناعة البترول والغاز إلى توفير الطاقة للمحرومين والاستفادة من قدرات صناعة النفط والغاز وانفتاحها على جميع الشركات العاملة في هذا المضمار، وغيرها من أصحاب المصلحة، بما في ذلك صناديق التنمية ورجال الأعمال.
وأخيراً وليس آخراً، أود التأكيد على إلتزام أوفيد الكامل بدعم خطط التنمية المستدامة في الدول العربية، لا سيما مشروعات الطاقة، وأن رؤية أوفيد تتضمن دوراً رئيسياً للقطاع الخاص في هذا المجال، وخاصة في تحقيق اهداف التنمية المستدامة بشكل عام. لذا نحن مستعدون للعمل مع الدول العربية الشريكة والمستثمرين لتمويل المشروعات في العالم العربي في مختلف المجالات الاقتصادية وخاصة الطاقة، من أجل تحقيق التكامل الاقتصادي بين الدول العربية. كما أننا مهتمون بتمويل مشروعات الصناعات المحلية لتوفير الخدمات فضلاً عن توفير خطوط ائتمان من خلال البنوك المحلية لتمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم.
سليمان الحربش، مدير عام، صندوق أوبك للتنمية الدولية (أوفيد).